المبروك

إنتفض قائما إثر سماعه صراخا بعيدا و وأخذت الأرض تلملم حبيباتها من ملابسه وأقدامه التي كانت تقبل وجهها تاركة أثرا واضحا.
سار مسرع الخطى، حاملا حذائه علي يديه وكل حواسه مصوبة إلي إتجاه واحد؛ مصدر الصوت.
كنا قد وصلنا للتو من الخرطوم إلي قرية الخرطة ريفي الابيض نحمل جثمان عمتي التي مكثت شهرين بالمشفي. القرية كانت صغيرة جدا لا يصل عدد بيوتها العشرون بيتا بمساحات واسعة (حيشان) وغرف قليلة متفرقة داخل البيت الواحد، المباني أغلبها من الطين والقش وقليل فقط من الطوب االحمر، وبالطبع لا توجد كهرباء والماء مالح. بدت القرية هادئة، ولكن ما إن توقفت السيارة حتي إنسل الناس من كل صوب بأعداد كبيرة كأنه تجمع لقريتين أو ثلاث وقد كان. عمتي هي الاخت الوحيدة لأبي وقد رفضت أن تغادر القرية رغم إغراءات أبي المتكررة، جئت مع أبي أوازره فأنا لم أره بهذا الضعف من قبل. أخي الوحيد كان خارج السودان ونحن ثلاث فتيات اخترت أنا أن أسافر معه.
إقتادتني إبنة عمتي إلي داخل المنزل، أبي مازال في الخارج الجميع يريد أن يعانقه رجالا ونساء ، بعضهم يسوقه حنين الطفولة إلي رفيق درب عزيز، وبعض يتنفس فيه رائحة الفقيدة التي لن تعود وبعض يقاسمه ألمه وحزنه. أدخلتني إبنة عمتي التي لا أعرف غيرها في هذه القرية غرفة واسعة تتوسط فناء الدار بها دولاب كبير، طلبت مني وضع أغراضي والإحتفاظ باحد المفاتيح، وخرجت. بدأت بوضع حقائبي وقبل أن أغلق الباب دخل عدد من الرجال يحملون الجثمان وصوت من الخارج يصرخ بهم
-هيا أخرجوا بسرعة….
وفي سرعة البرق سحبوا احد الأسرة إلي وسط الغرفة بعد أن أفرغوه من محتواه ووضعوا الجثمان فيه وغادروا. ساد صمت تام بالخارج و توقف النواح فجأة
-مرحب بالمبروك…مرحب بالمبروك
الجميع كان ينطق هذه الجملة وأنا بالداخل معلقة إلي باب الدولاب كالمحنطة، اتأمل الموت وهيبته في جثمان عمتي، جسد بلا روح يتمدد أمامي موشح بالبياض، ما سر هذه الروح التي تحرك الجسد وما إن تغادره يصير جمادا. كيف نضحك ونحزن ونفرح ونغضب ونسافر
ونأكل ونشرب وفجأة يصبح لا فرق بيننا وبين السرير الممددين عليه. ما أتفه الحياة… سالت دموعي علي خدي ولطالما سألت نفسي لم تسيل الدموع عند الحزن وتسيل أيضا عند الفرح و…
-بسم الله ….
دخل شاب عشريني طويل القامة كثيف الشعر، وضع حذائه خارج الغرفة ودخل حافيا علي التراب، ملابسه كان عليها الكثير من الأتربة وكذلك شعره. جثا علي ركبتيه قرب رأس عمتي ووضع يده الملطخة بالتراب علي كفنها الابيض وقال
– عندما تذهبين إلي بلد الموت أخبري أمي أن تعود.. أخبريها أني أفتقدها كثيرا وأني قد وفيت بوعدي لها… هي فقط تأتي وهذا كل شيء…
كان وجهه قبالتي، تعجبت للصوت الطفولي الذي يخرج من فمه الذي كان يرتجف وهو مغلق بقوة، كان يقاوم دموعه وقد أفلح. نهض بسرعة وإتجه نحو الباب وما إن وصله حتي علت الأصوات
-بركاتك يالمبروك… بركاتك…. بركاتك
إمتلأت الغرفة بعدها برجال يتحدثون عن ميعاد الدفن، أغلقت باب الدولاب في هدوء وخرجت.
الجميع يتحدث عن أن عمتي سعيدة كون المبروك حضر جنازتها، الكل بدأ يقص علي قصص المبروك وكراماته، وكيف ان دعوته لا ترد وأنه لا يأكل اللحم وينام في المساجد ويحفظ القران، وكل بيت لديه ثوب للمبروك وينتظر اليوم الذي يدق المبروك بابه طالبا الاستحمام حتي يهديه إياه
-أين أمه وأهله؟
سألت االجميع فكل ما أخبروني به لم يكن مهما، وجاءتني الإجابة التي توقعتها، لا أحد يعرف من أين جاء ولا مسقط رأسه، جل مايعرفونه أنه يحضر المآتم ويدعو للميت علي إنفراد، يبقي في القرية ايام ويغادرها الي قرية اخري.

لم أشأ أن أفسد عليهم شغفهم بهذا المبروك، هذا الطفل الذي يسكن جسد رجل ويفتقد امه لدرجة أفقدته عقله، اتري هذه هي الحقيقة؟! هل كانت أمه مثل كثير من الأمهات تكذب علي طفلها بغرض أن تجعله يطيعها?! هل كانت تهدده بانها ستذهب الي بلد الموت إن لم يطعها؟!. الكثير من الاسئلة كانت تدور في رأسي ونحن في طريق العودة، السيارة مسرعة والقرية تصغر شيئا فشيئا… وعلي البعد شخص طويل بثوب ابيض يسير مسرع الخطي قاطعا المسافة بين قريتين… تأملته وانا أبتسم، فهو لم يكن سوي “المبروك”

 

Related posts

حبابها السمحة حبابها يمه،، حبابها الكتار صحباتها

حلم التخرج

عام الورق

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. أقرا المزيد...