من ماء

 

عِندَ كُل ألمٍ وفي كُلِّ مرّة أُصابُ بنوبةِ حزنٍ كُنتُ أبتلعُ الدَّمع حتى أشعُرَ بمُرِّهِ يعبرُ بداخلي فيخترقَ قلبي ويمكثُ هناكَ ليغسِل حُزني فيزولُ، لكن هذهِ المرَّة لم يتخلل دواخلي مُطلقاً، أراد أن يُطلق عنان لنفسهِ لينزلَ حارِقاً لخدِّي، كأنّه يريد أن يُخبرني أن حرارته هذهِ إثرَ كُلِّ هذا الحبسِ الطويلِ.

أمدُّ يدي لأمسحهُ إلّا أنهُ يتساقطُ غير آبهٍ لأصابعي، حتى يجعلني أشعرُ بأنَّه شلالٌ ينبعُ من مُقلتيّ لا يتوقفُ أبداً. حتّى الماءُ في هذهِ المرَّة لم يُنقذني أبداً، لم يمسح ولا شيئاً مما في وجهي، إذ كأنني أمسحُ الدّمعَ بالدمعِ، هل هو يعاقبني على حبسي لرفيقٍ لهُ وابن فصيلتهِ كُلَّ هذه المُدّة؟

لم يكُن عليَّ أن أتصالحَ مع الماءِ مرَّةً أخرى، فهو يعد نفسهُ عدواً لي في هذهِ اللَّحظةِ، أمَّا أنا فعاشقةٌ لا تُرَّدُّ عن معشوقِها. أذوقُ علقماً في كُل مرّةٍ أرتشفُ فيها شيئاً من الماءِ ليَغسِلَ جوفي، ثُمَّ أصبُّ منهُ على مُقدمةِ خصلاتِ رأسي فينزِلُ على وجهي مُحرِقاً لهُ، ينهمرُ عليَّ ليُذكرني بأدمعي التي ظلت حبيسةً طول هذا الوقتِ، إما أنّهُ أراد أن أُحرّرها أو أن يُشعرني بالندمِ كُل هذا الوقت من حِرماني لنفسي شيئاً من حقوقي، وهي أن أُعبِّر عمّا بداخلي، لكّنني في كُلِّ مرّةٍ كُنت أفعلُ العكس دائماً، وأظن أنّ الماء يُعاقبني..

كُنّا أعداءً لِفترةٍ ليست بقليلةٍ؛ ولكن لا بُدَّ من أن يتصافى قلبُ مُحبٍ ومحبوبٍ في آخر الأمرِ، كان حُزني ثقيلاً حتى على نفسي، لم تستطع عيني أن تتحمّل كُل هذا الدّمعَ وحدها فقررت مشاركتهُ مع خديَّ، فنزفت دمعاً ودماً، براكينٌ غطت وجهي، كنتُ أرجو أن يكون هناك من يأبهُ لما يحدثُ، أن تُخلَقَ قُوَّةٌ تمسحُ أدمعي لأنّ يدي وحدها لن تستطيع أن تزيلَ كُل هذا من على وجهي أو أن تقتلعَ هذا الشعُور من قلبي.

كان هُناك من ينظُرُ إليّ، من يتمزقُ لأشلاءٍ صغيرةٍ حتى يُغطي منظري ذاكَ، ما إن نظرتُ إلي السماءِ أستجدي حتى انهمر الماءُ على وجهي مُخالِطاً رزازهُ دمعي، فلم يغسل عينيَّ فقط بل غطى على قلبي وغسلَ كُلَّ مُرِّ الحُزنِ الذي أصابهُ قبلاً، كُنتُ أدري أنّ الماء سيكونُ صديقي كما كان سابِقاً، شعرتُ بأنني لستُ وحدي حين سمعتُ موج البحر من أمامي يواسي روحي حِيال ما مرّ بِها، والمطرُ يهطُل عليَّ يداعب مقلتي مُقبِّلاً لها مُعتذِراً، يُخبرني أنَّ دموعي ليست وحدها التي خُلِقَت من ماءٍ، بل أنا أيضاً ماءٌ، حرارةُ الحُزنِ تجعلُ قلبي يغلي وتجمدُني برودةُ المُحِبُّ، فما لي غيرها، وما لِحُزني مُهديءٌ سواها

 

Related posts

مشتاقين

ناظم الحرف

وتمضي الأيام

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. أقرا المزيد...