مملكة تقلي الاسلامية (ج2)

تقلي قبل ظهور المكوك

قبل أربعة قرون، كان يتكوَّن سكان الجبال الشماليَّة-الشرقيَّة من عنصر إثني واحد؛ و كانوا يتمركزون في ثلاث مناطق: تيرمي في أم طلحة، و جبال الكيجاكجة، و تقلي نفسها. كان القوم يعبدون الآلهة الطَّبيعية و هم لها عاكفون، و يعيشون حياة بدائيَّة بسيطة تحت السيطرة الوراثيَّة للمشايخ في دارهم التي تقع في تقلارو – بالقرب من قرية الهوي – و كانوا يُعرفون باسم الهمج، هكذا تقول الأساطير القديمة. و بما أنَّ دماء السكان الأوائل قد ذابت و اختلطت مع العناصر التي وفدت إلى هذه المنطقة من كل فج عميق، إلاَّ أنَّها مازالت باقيَّة لدي مواطني جبال الكيجاكجة، الذين احتفظوا بنقاء حسبهم ونسبهم.

على الرَّغم من دخول الكيجاكجة إلى الإسلام أفواجاً خلال ثلاثمائة عام مضى، إلاَّ أنَّهم مازالوا يتمسَّكون ببعض عاداتهم وتقاليدهم القديمة، وطريقة حياتهم اليوميَّة لم تتغيَّر كثيراً. كما تجدهم يمارسون حرفة زراعة الذُّرة على سطوح الجِّبال باستخدام الحشَّاشة الخشبيَّة؛ ويقومون بتربية الماشية؛ ونادراً ما كان يغامر القوم بالابتعاد عن جبالهم. قليلاً منهم كانوا يتحدَّثون اللُّغة العربيَّة، حيث أنَّ في تقلي قلَّما تجد اللُّغة المحليَّة في الاستعمال وربما أصبحت نسياً منسيَّاً. أمَّا عُمدتهم أو الجُّندي فينحدر من جنادي تقلي القديم الذي كان من الملازمين الوارثين للشيوخ الحاكمين، واستمر المنصب حتَّى خلال فترة حكم المكوك “الجعليين”.

إنَّ إقامة أهالي تقلارو في هذه الجبال الصخريَّة، والحصون المنيعة تعكس الصِّفة الحربيَّة التي كان يتميَّز بها القوم. وكان تسليحهم يشتمل على الحراب والسكاكين والحجارة. إذ يبدو أنَّ المملكة لم تتخوَّف من أعدائها في الشمال القصي أو الغرب البعيد، لكن أعدائها الفعليين كانوا قاطني المجتمعات المجاورة. مهما بُذِل من الاجتهاد، فمن الصَّعب جداً تعقُّب جذور سكان المنطقة الأولين. لكن هناك كثيراً من أوجه التَّشابه بين الكيجاكجة والكواليب، مما يدعم هذه الشبه التَّكهن بوجود سلالة مشتركة. لكن الكيجاكجة اعتنقوا الإسلام، وفضَّل الكواليب البقاء على معتقداتهم الأفريقيَّة، وقد تنصَّر جزء منهم عندما دخل التَّبشير المسيحي إلى المنطقة إبَّان الحكم البريطاني-المصري في السُّودان (1898-1956م).

بإجراء البحوث المكثَّفة على سكان تُكم، وترجوك، وتقوي – الذين جعلوا الإسلام ديناً لهم – وكذلك النُّوبة في جنوب المنطقة قد يساعد في اكتشاف التَّباين بين الكيجاكجة والكواليب.

كل ماهو أكيد، ولا ريب فيه، أنَّه منذ القرن السَّادس عشر بعد الميلاد عاش في تقلي أناس كانوا يسبِّحون اللَّه عن طريق سنن الكون؛ ولهم ملامح نوباويَّة مميِّزة؛ ولم يتم التَّزاوج والتَّمازج بينهم وبين الأجانب. هذه المجموعة البشريَّة كوَّنت النَّواة لمملكة تقلي التي نحن بصدد الحديث عنها. مما سبق يتَّضح أنَّه قبل أن تنتقل مقاليد السُّلطة إلى الحكام الوافدين، كانت بالمنطقة أنظمة حكم سياسيَّة واجتماعيَّة؛ وكل مافعلته السُّلطة الاستيطانيَّة هو تطوير النِّظام السَّائد حينذاك وإضافة شيئ من الارستقراطيَّة كثير، والاستبداد والتَّنكُّر على بعض العادات والتقاليد الموروثة، وإدخال الإسلام كعقيدة في المنطقة.

Related posts

إشكالية إدارة التنوع الثقافي في السودان

الديمقراطية للديمقراطيين

جرائم عبر القرون ج (10)

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. أقرا المزيد...