مصيدة الغربة… والمفهوم المشوه

 

كان الأمر مستفزاً حين تواصلت معي إحدى الإذاعات المحلية من باب إتاحة الفرصة لمداخلة عبر أحد برامجهم وكان عنوان الحلقة يدور حول “دعم المغتربين لأوطانهم”… والمقصود هنا بلدي العزيز “السودان” موجهين لي ثلاثة محاور كالتالي:

-كيف كان دعم المغتربين للبلد في الفترة الماضية؟

-كيف يمكن للمغترب أن يستثمر في بلاده ويعلي من شأنها؟

-كيف ممكن إنت كمغترب تدعم البلد؟

قمة الغرابة أن تُطرح مثل هذه الأسئلة ونحن في أواخر العام 2021م بعد خمسة عقود من بدايات الاغتراب في السودان، حين كانت السودان أشبه بجنة يتغنى بها الشعراء ويضرب بها المثل في حضارتها وعمرانها وتقدمها، إذ كانت أمنية من أمنيات الشيخ الراحل زايد بن سلطان آل نهيان، حين زار السودان في 20 فبراير 1972م بعد شهر ونصف الشهر من قيام دولة الإمارات، واستقبلت الإمارات الرئيس السوداني وقتها كأول رئيس يزورها بعد قيامها وأول دولة تعترف بقيامها واستقلالها.

وفي بعض لقاءات المغفور له الشيخ زايد مع تلك القيادات، كان يردد: (أريد أن تكون أبو ظبي مثل الخرطوم في جمالها)، مما يؤكد أن السودان كان متطوراً في التخطيط العمراني والزراعي والصناعي، وكان في فترات سابقة من الدول المانحة.

بعد تلك الفترة بدأت الغربة في السودان، ولم تكن لحاجة بقدر ما كانت دعوة للكوادر والطاقات البشرية المؤهلة للمشاركة في دعم وتعمير الدول المجاورة.

يعني خرج الكادر متعلقاً بوطنه تماماً، واستمر في دعم بلاده عن بُعد متأملاً في عودة سريعة للديار، وواقع أفضل مما كان له ولأبناء منطقته وفي شتى ربوع السودان.

إلى هنا ويبدأ فصل جديد لم يتم توثيقه في ذاكرة البشر كما يجب…

من شدة إخلاص وإتقان المغترب السوداني لم تكن الرحلة قصيرة كما كان يظن، فالتطور السريع في مسارات عمله المؤسسي والمشاريع التنموية في بلاد الغربة؛ لم تتيح الفرصة لعودة مبكرة.

ومرررت السنوات وظل المغترب كما هو “مغترب” يحكي اقصوصات ماضيه الجميل لأطفاله غارساً روح الوطنية، عاكساً لهم صورة ذهبية وعالم وردي مع عشم العودة القريب، ومستمراً في دعم عائلته وحَيِّهِ ودولته بكل ما أوتي من رزق.

هنا ترسخت الصورة النمطية للمغترب… ووصفها كالتالي: رجل يتمتع بقدرة مالية لا تنقطع على مدار العام، وحين يزور وطنه بعد عدد من السنوات يكون مثل 《بابا نويل》 محملاً بالهدايا لا ينسى الصغير ولا الكبير، وحين يطلب منه عمدة القرية أو المنظمات المحلية الدعم للمشاريع الأهلية أو الوطنية يكون أول المُلبين مثل《فانوس علاء الدين》.

 

ومررت السنوات مرة أخرى، وأصبح الأطفال شباباً في مراحل الدراسة المتقدمة، ربما يختلفون عن الطفل الذي لم يعش تجربة الغربة قليلاً، فهم محملين بالمشاعر الوطنية، معطائين مثلما كانوا والديهما، متحمسين للتجربة العلمية في مكان لطالما حلموا بالعيش فيه.

وهنا تبدأ المعركة… بصراع نفسي بين ما يُروى ويعاش، وما بين الحلم والواقع وهذا ما سأتناوله في مقالي القادم إن شاء الله.

وقفه…

أحياناً يجبرنا واقعنا للوقوف على الأطلال، ومن بين كل الوقفات للوطن وقفة أخرى، وللتاريخ ذكراه.

يتتبع>>>

Related posts

العمى الفكري

مصيدة الغربة والمفهوم المشوه (2)

لنرتب فوضى العقول والأفكار

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. أقرا المزيد...