الوشم الوثيقة السودانية المندثرة

أكدت الحفريات والمشاهدات من قبل بعض العلماء والباحثين في ممالك النوبة القديمة بشمال السودان ؛ أن الوشم على الجسد كان مستخدماً في العهد المروي الكوشي (900 – 350 ق.م) على منحوتات البجا والنوبة، كما أنه مورس في جميع الممالك النوبية اللاحقة مثل مملكة علوة والمقرة وسوبا وكبوشية ونوباتيا.

عندما انتصر تحالف الفونج والعبدلاب وسيطرت المجموعات المسلمة على بقايا الممالك النوبية المسيحية القديمة وكونت دولة السلطنة الزرقاء مع سقوط مملكة سوبا في (1505م)، فإن المسلمين -المستعربين والعرب- واصلوا أيضا ثقافة الوشم في المشيخات والمجتمعات والممالك التي نشأت بعد سقوط الدويلات النوبية وظلوا يشمون أوجههم وأجسادهم.

واستمر ذلك إلى تاريخ اليوم، حيث ما زالت كثير من القبائل والأسر المستعربة بالسودان الحديث تتبنى ثقافة الوشم، خاصة عند قبائل النوبة في غرب وشمال السودان، وقبائل الفور والزغاوة بغرب السودان، والبرتا في النيل الأزرق، والمجموعات النيلية بالجنوب وبعض القبائل الشمالية مثل الشايقية والجعليين، وكثير من القبائل الوافدة للسودان من غرب ووسط أفريقيا ومجموعات حضرية في بقاع السودان الشاسعة.
يظهر الوشم في أشكال مختلفة، كان عبارة عن ثلاثة خطوط أفقية في الخدين عند قدماء البجا والنوبة، مع وجود رسوم لأشكال وخطوط في البطن والساعدين والوجه والكتفين والخدين والصدغين، أيضا في بعض الأحايين في الرجلين والظهر أحيانا قليلة.

لا يمكن الحديث عن جواز سفر أو شهادة ميلاد أو بطاقة شخصية، فعبقرية الظروف الموضوعية هي التي اختارت الجسد ليصبح الوثيقة الدائمة، المتنقلة التي لا تفسد ولا تزور أو تتلف طالما بقي الإنسان حيا.
وأخذت بعض الأشكال تتساقط تدريجياً وظلت البعض في مواقعها القديمة، خاصة تلك الناتجة عن الكي والجروح والمتعلقة بالأمراض المعينة مثل اليرقان والرمد والاستسقاء، حيث يظن كثير من السودانيين بمختلف قبائلهم أنه يفيد في العلاج من تلك الأمراض.
السؤال المهم الآن هو، لماذا استخدم الوشم قديما، وكيف انتقل إلى العصور الحديثة؟ ما هي فائدته وإستخداماته. كثير من الدارسين لظواهر الوشم في السودان أو جميعهم، يتحدثون عن إستخداماته الجمالية، وتمييز القبائل والمجموعات السكنية والعقدية عن بعضها البعض.
فنجد علامة ثلاثة خطوط أفقية عند قبيلة الشايقية، علامة T عند الجعليين، ثلاث من الخطوط على شكل الحرف V على الجبهة عند النوير، إزالة الأسنان الأمامية عند الدينكا مع بعض الخطوط الأفقية وسط الجبه. ثلاثة خطوط رأسية عند الخدين لدى البجا، وهنالك علامات تميز أتباع بعض الطرق الصوفية مثل الشيخ الفادني، والشيخ عبيد ود بدر، والسيد على الميرغني، والإمام المهدي، والشيخ حسن ود حسونة، وهم من قادة الطرق الصوفية والقائمة تطول.

السيد علي الميرغني


كما أن الوشم في المائة سنة الأخيرة أصبح ميزة جمالية عندما تغنَى الشعراء بوشم حبيباتهم، وأطرب المغنون بكل لغاتهم المحلية والعربية بوشم الشفاه والوشم الذي على الخدين، مما جعل الوشم يستمر لسنوات طويلة أخرى، بإصرار من أجيال متشوقة للمظهر اللطيف المحبب لدى المعشوق.
واكتسبت تلك العادة القديمة ميزة جمالية خطيرة جداً بمفهوم جمالي بعيد جد عن السبب الذي استحدثت من أجله في السابق. وأذكر بيت من أغنية مثيرة لفنان من قبيلة البرتا يُسمى طاهر سراجيه، ترجمته بالعربية: (كتبت لي خطابا حبيبتي، ذات الشفتين الموشومتين بالسواد).

قدماء النوبة والبجا كانوا في أشد الحاجة للتوثيق ومعرفة الأفراد حتى تسهل إدارة الدولة ويسهل عمل الشرطة ورجال المباحث، في زمن فيه الجسد هو الكتاب الوحيد المتاح.
لكن في رأيي وبملاحظتي القريبة واللصيقة لقبائل النوبة ولبعض القبائل النيلية، فإنني أرجع السبب الأساسي من الوشم بأنواعه المتعددة، إلى الحاجة للتوثيق والاتصال معا، وهذا يقودنا لظاهرة العُري عند بعض القبائل.
لوقت قريب جدا، كان عندما يعود شخص من بعض القبائل إلى موطنه الأصلي قادما من المدينة أو يدخل قرية من القرى الغريبة، فإنه يخلع ملابسه ويحملها في عصا على كتفه ليدخل القرية، ولا يرتديها مرة أخرى إلا بعد أن يغادر القرية ويصبح على مرمى حجر من المدينة.
في جسد هذا الرجل تجد رموزا، علامات وإشارات كثيرة، يقرؤها كل من يلتقي به بكل سهولة ويسر، فهي تدل على تاريخ ميلاده أي جيله، وعلى شجاعته أو جبنه أيضا، وتدل على أسرته ومجموعته القبلية والأمراض التي أصابته وربما بعض الحروب التي خاضها، والأبعد من ذلك هل كان كثير البكاء في طفولته أم لا. وبالنسبة للبنت فهي تحمل كل ذلك إضافة إلى هل هي متزوجة أم تبحث عن زوج، وكم هو رقمها في ترتيب الأسرة.
إذن لا يمكن أن يدخل هذا الشخص قرية متخفيا أو منتحلا شخصية أخرى غير شخصيته الحقيقية، لا بد له أو لها من كشف كل تلك المعلومات المهمة لسكان القرية حتى يعرفوا من هو بالضبط، بل وما الغرض الذي جاء من أجله.
فالرجل الذي يبحث عن زوجة في بعض القبائل، غالبا ما يصنع على وجهه وجسده وشما من الرماد. ظاهرة التعري حينئذ هي ظاهرة إعلامية جمالية في المقام الأول الغرض منها إبراز الوشم وتسهيل قراءته للجميع، في مجتمعات لا تقرأ، لا تكتب ولم تستخدم الأوراق والحبر في حياتها، بل لا يمكن أن تجد كتابا في القرية كلها ولو لأغراض الرمز.
وبالتالي لا يمكن هنا الحديث عن جواز سفر أو شهادة ميلاد أو بطاقة شخصية، فعبقرية الظروف الموضوعية هي التي اختارت الجسد ليصبح الوثيقة الدائمة، المتنقلة التي لا تفسد ولا تزور أو تتلف طالما بقي الإنسان حيا، بل قد تميزه بعد موته أيضا.
ففي بعض القبائل تنتزع الأسنان الأمامية للدلالة على بلوغ مرحلة الرجولة أو الأنوثة، فبذلك يمكن التمييز ما بين جمجمة الطفل والبالغ وقبيلته، والخطوط التي بجبهة الفرد من قبيلة النوير والدينكا تحدث خدشا في عظمة الجمجمة، وهذا أثر لا ينمحي طالما بقيت الجمجمة في مكان ما سليمة ويمكن قراءتها.
ولا أعتقد أن قدماء النوبة والبجا كانوا يستخدمون الوشم لأغراض جمالية بحتة، إنهم كانوا في أشد الحاجة للتوثيق والمعرفة الوثائقية للفرد، حتى تسهل إدارة الدولة ويسهل عمل الشرطة ورجال المباحث (عيون السلطان وتنابلته)، في زمن فيه الجسد هو الكتاب الوحيد المتاح، الذي يضطر الشخص إلى أخذه معه أينما يذهب.
الوشم في المائة سنة الأخيرة أصبح ميزة جمالية عندما تغنى الشعراء بوشم حبيباتهم، وأطرب المغنون بكل لغاتهم المحلية والعربية بوشم الشفاه و الخدين، مما جعله يستمر لسنوات طويلة أخرى.

وهذا أيضا يجد تفسيراً معقولاً لمعضلة لماذا مارس العرب المسلمون الوافدون إلى السودان الوشم دون تردد، وهو غريب عن عاداتهم وتقاليدهم وموروثاتهم المتناقلة، ومحرم في الدين الإسلامي. فما ذلك إلا لحاجتهم الماسة “للأوراق” التي تثبت الشخصية، وما كانت أمامهم وسيلة أخرى متعارف عليها وفاعلة غير الوشم، فاتخذوه.
والوشم أيضا يستخدم للحيوان وفي هذه الحالة يسمونه الوسم، وأذكر إلى الآن أن أجدادنا وجداتنا كانت لديهم أوشام الشفاه والخد.. ونذكر أن الوشم بدأ في الاندثار عند بعض القبائل الشمالية وغيرها، إذ تجد أن الأجيال الحالية لم تمارس هذه الثقافة.

Related posts

إشكالية إدارة التنوع الثقافي في السودان

مدينة أبو سمبل

عاداتنا السمحة

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. أقرا المزيد...