لطالما كانت العلاقة بين السينما والأدب علاقة توأمة فنية قديمة ومتجددة، فكثيراً ما استلهمت السينما أفلامها من أعمال أدبية ناجحة، يقوم فيها صناع السينما بتحويل تلك الأعمال من مجرد أفكار وشخصيات على الورق إلى واقع يتحرك على الشاشة الفضية.
واعتماد السينما على الصورة والمؤثرات البصرية بالمرتبة الأولى، جعل من معالجتها للأعمال الأدبية أمراً مرغوباً بل ومستحباً، ومن أشهر هذه الأعمال الأدبية هو أدب الرعب والخيال العلمي، فهذا النوع من الأدب يعتمد بشكل كلي على إثارة المخاوف الكامنة لدى القارئ بنسج حكايات مبنية على أحداث وقصص غير واقعية في معظمها تلعب على وتر الخوف من المجهول لدى القراء، ويعتمد جزء كبير منها على عرض أحداث خارقة للطبيعة في بيئة عادية وواقعية، أو ما يعرف ب”الواقعية السحرية”، ويعتبر الكاتب الأمريكي “ستيفن كينج” أحد أهم وأشهر مؤسسي هذة المدرسة.
ارتبط إسم “ستيفن كينج” بالكثير من أفلام الرعب والخيال العلمي التي أنتجتها السينما في العقد الأخير، والتي لاقت نجاحاً جماهيرياً ونقدياً واسعاً جعل كثير من المخرجين يتهافتون لتحويل أعماله إلى أفلام سينمائية ناجحة في بعضها، وواقعة في شِباك النمطية وسوء التجسيد السينمائي في البعض الآخر.
البدايات:
ولد “ستيفن كينج” في مدينة (بورتلاند-مين Portland,Maine) الأمريكية في سبتمبر من العام 1947.
كانت بداياته في كتابة الأدب من خلال سلسلة من المقالات الأسبوعية في صحيفة مدرسته الثانوية، تحولت فيما بعد إلى عمود ثابت في صحيفة كلية (مين) الجامعية (The Maine Campus) والتي تخرج منها عام 1970.
أول رواية كتبها “كينج” كانت “كاري Carrie” وتتحدث عن فتاة مراهقة تمتلك قدرة خارقة على تحريك الأشياء عن بعد، حققت الرواية نجاحاً كبيراً مما شجعه على ترك عمله والتفرغ لكتابة الروايات.
وأمام آراء النقاد المنبهرة بهذه الرواية، قرر المخرج “برايان دي بالما” تحويلها إلى فيلم سينمائي، قامت ببطولته “سيسي سباسيك” و”جون ترافولتا”، حظى الفيلم بنجاح ضاهى نجاح الرواية وحصد ترشيح لجائزة أوسكار ل”سيسي سباسيك” لأداءها العبقري لشخصية الفتاة المضطربة ذات القدرات الخارقة. طرح الفيلم في عام 1976، وأعيد طرحه في نسخة جديدة عام 2013 من بطولة “كلوي غريس موريتز”، ليدخل “كينج” من خلال هذا الفيلم إلى عالم السينما من أوسع أبوابه.
ومع توالي روايات “كينج” توالت الأفلام المقتبسة منها، وقد شهدت الثمانينات عرض باقة متنوعة من أجمل أفلام الرعب المقتبسة من روايات “كينج”، مثل “Cujo””، “Children of the corn و”Pet Sematary” والذي أُعيد أنتاجه في عام 2019، وتتمحور قصته حول مقبرة لها القدرة إعادة الحياة للأموات الذين يدفنون فيها.
كما شهدت الثمانينات عرض الفيلم الوحيد الذي أخرجه “كينج” “Maximum over drive”، ولكن لم يحالفه الحظ في هذا المجال، إذ يعتبر الفيلم وبناءً على رأي كاتبه ومخرجه، من أسوأ الأفلام المقتبسة عن أعماله.
كوبريك وكينج:
وبالطبع لانستطيع أن نذكر الثمانينات دون أن نتحدث عن أحد أهم الأعمال السينمائية في تلك الحقبة والمقتبس عن رواية ل”كينج” تحمل نفس الأسم، فيلم “البريق The Shining” وهو يندرج تحت تصنيف الرعب النفسي، وتدور قصته حول كاتب روائي يتولى وظيفة جديدة لإدارة أحد الفنادق النائية في فترة اغلاقه الموسمية في فصل الشتاء، وهو ما اعتبره الكاتب فرصة مثالية للأنعزال حتى يتمكن من إنهاء روايته الجديدة، ولكن بعد وصول عائلته للفندق تبدأ الأحداث الغريبة في الحدوث.
قام المخرج العبقري “ستانلي كوبريك” بإخراج هذا الفيلم عام 1980، وقام ببطولته “جاك نيكلسون” في أحد أقوى أدواره، وبالرغم النجاح الذي حققه الفيلم إلا أن “كينج” لم يعجبه الفيلم، مبرراً ذلك بأن ابتعد كثيراً عن الرواية الأصلية بدءً من تغير الأحداث مروراً بتغيير بناء شخصيته الرئيسية وصولاً للتغيير الكبير في النهاية، فكوبريك لم يلتزم بالنص المقدم من “كينج” بل قدم الفيلم حسب رؤيته الخاصة، ليقوم “كينج” بعدها بإعادة تقديم الرواية في صورة حلقات تلفزيونية في عام1997.
وسواءً إتفقنا أو إختلفنا مع “كينج” فإن الفيلم يعتبر من أفضل أفلام الرعب النفسي في تاريخ السينما برمزياته المحملة بعدة تأويلات وإيحاءات، ونهايته الغامضة التي تترك المشاهد متحيراً في تفسير المحرك الرئيسي للأحداث، أهي بفعل قوى خارقة أم أنها نتيجة للدوافع النفسية لشخصياته.
أما التسعينات فقد كانت بمثابة العصر الذهبي ل”كينج”، والذي شهد عرض مجموعة من أنجح أعماله الدرامية والمرعبة على حد سواء، نذكر منها على سبيل المثال رائعته “بؤس Misery” التي حولها المخرج “روب رينر” في عام 1990 لفيلم من بطولة “كاثي بيتس” في أفضل أداء لها مزجت فيه مابين الرعب والكوميديا السوداء مع مسحة تهكمية، لتنال على أثره جائزة أوسكار أفضل ممثلة لتجسيدها البارع لشخصية المعجبة المهووسة التي تقوم بإختطاف كاتبها المفضل لترغمه على إعادة كتابة النهاية لإحدى رواياته.
جواهر خالدة:
وبعيداً عن الرعب فقد قدم “كينج” أعمالاً درامية ناجحة، احتلت مكانة كبيرة في وجدان محبي السينما وتربعت على عرش قوائم الأفلام، واهمها هو أيقونة السينما العالمية والمصنف كأحد أفضل الأفلام السينمائية حتى الأن، فيلم “The Shawshank Redemption” 1994 وهو مقتبس من قصة قصيرة ل”كينج” بعنوان “Rita Hayworth and the Shawshank Redemption” “ريتا هيوارث والخلاص من شاوشانك”، والتي أبدع المخرج”فرانك دارابونت” بتحويلها لقصة ملحمية عن الصداقة والحرية والسعي نحو الخلاص.
أخرج “دارابونت” عام 1999 عملاً أخر ل”كينج” يعتبر ايضاً من أيقونات السينما العالمية، “الميل الأخضر The Green Mile” ملحمة درامية عاطفية من بطولة النجم”توم هانكس” تدور قصته حول سجين غير إعتيادي يواجه حكماُ بالإعدام.
شهد العقدين الأخيرين عرض عدد من الأفلام المقتبسة من روايات كينج، تنوعت مابين أفلام الرعب النفسي وأفلام الخيال والقوى الخارقة للطبيعة، والتي تشابهت في ثيمات كثيرة مثل تشابه شخصياته الرئيسية، فنرى عودة “كينج” لتقديم شخصية الكاتب الذي يواجه صراع نفسي في أفلام مثل “The Secret Window” و “1408”، وكذلك تلك النوعية من الأفلام والتي تضع أبطالها في مواجهة مع شئ غامض ومجهول مثل فيلم “The Mist” والذي يحتوي على أحد أكثر النهايات تراجيدية.
وكان فيلم “It” هو أخر الأفلام المقتبسة من روايات “كينج” وقدم بجزئين عام 2017 و2019.