“لقد تعلمت باكراً أن الحق لا يعطى لمن يسكت عنه، وأن على المرء أن يُحدث بعض الضجيج إذا أراد أن يحصل على شيء”، هذه كلمات خصنا بها مالكوم اكس تشبيها لما يعانيه أبناء جلدته من عنصرية لدرجة الإرهاب من مجتمع البيض الأميركي ، وذلك ينقلنا إلى فيلم “Judas and the Black Messiah“ الذي يبين لنا صفحة من تاريخ أمريكا المظلم وإرهاب منظومة العدل الأمريكية.
يستقبل عشاق ومحبي هذه النوعية من الأفلام إصداراً جديداً يتبع شركة “وارنر بروس” مستوحي من أحداثٍ حقيقية في فترة الستينات وبالتحديد في ولاية “شيكاغو”، حينما لاحت بوادر ثورةٍ شعبية من أجل إسترجاع حقوقٍ مدنية مشروعة تسلبها أيديولوجيات وسياسات العنصرية دون وجهٍ حق ،ولا تشجع علي النهوض بالمجتمع حيث يكون متكافئاً لا يتم التمييز فيه بين الناس على أساس العرق أو أية إعتباراتٍ أخري.
في ستينيات القرن العشرين كان الشارع الأمريكي خارجاً عن السيطرة بالفعل، ولا يوجد رصيف يخلو من دماء، اغتيل الرئيس كينيدي، وأخوه السيناتور بوبي، قُتل الدكتور مارتن لوثر كينج، والمناضل مالكوم إكس، تصاعدت احتجاجات طلاب الجامعات تجاه ما يحصل في فيتنام، ووجد الهيبيون في ذلك العالم مرتعاً لأفكارهم، وتصاعد تيار الأحزاب الفئوية العنصرية والمناهضة للعنصرية، وكان السود قد تعلموا أن يُحدثوا بعض الضجيج للحصول على حقوقهم ، بدعوته المناهضة للتمييز كان حزب “الفهود السود” ورسالته الاشتراكية المعادية لرأسمالية النظام الأمريكي حجر عثرة في حذاء جون إدجار هوفر مؤسس مكتب التحقيقات الفيدرالي والرئيس الأول له، والذي حمل على عاتق جهازه الأمني مسئولية أمن النظام الأمريكي سياسياً واجتماعياً.
سيناريو محكم درامياً وثري علي مستوي المحتوي القصصي يقدمه المخرج الشاب “شاكا كينج” في ثاني تجاربه الروائية الطويلة ، فها هو يثرينا بفيلم “Judas and the Black Messiah“ الذي يسلط الضوء علي “فريد هامبتون” أحد قادة حزب “الفهود السود” أو “Black Panther Party” وبالتحديد فرع “إلينوي” ومجهوداته الشاقة في حل النزاع الداخلي في أمريكا والسعي من أجل التغيير الاجتماعي والمساواة بين أبناء الوطن الواحد، في الوقت الذي يتم تجنيد المجرم الشاب “وليام أونيل” من قبل ال”FBI” كي يحاول الإندساس وسط الحزب، وتبليغ السلطات الفيدرالية بكافة المعلومات التي تدور علي ألسنة “فريد هامبتون” ومعاونيه ، ما يميز سيناريو فيلم “Judas and the Black Messiah” هو الإيقاع المتصاعد منذ البداية وحتى الوصول للمنعطف الأخير من الحكاية، وجاء ذلك نتيجة إعتماد التفاصيل الهامة من القصة الحقيقية بما يؤرخ رحلة الشخصيات سواءاً في المسعي الثوري الذي يخص شخصية “فريد هامبتون” أو في تعايش شخصية “أونيل” وسط رجالات الحزب كأنه منهم والضغوطات الكثيرة التي يتعرض لها سواء من الفيدراليين أو في المواقف العصيبة الأخرى التي تواجهه وقتما يصيب “هامبتون” ورفاقه عيارات العنف الموجهة نحوهم.
ولكن هناك نقطة رئيسية هي بمثابة العلامة الفاصلة في النجاح الذي حققه فيلم “Judas and the Black Messiah“ وهي غياب الدراما المكثفة التي تقدم لمحاتٍ عن معاناة ذوي البشرة السمراء كي يتأثر بها المشاهد ويستسلم كليتاً لدموعه تنسال على خديه مما يراه، لأن ذلك بات كليشيهاً إعتاده الجميع في الكثير من الأعمال وبات نهجاً مكرراً فرغ البعض من التردد علي متابعته ، يحسب للمخرج “شاكا كينج” تسخير عدسات الكاميرا بإدراكٍ كبير لما يجب إتخاذه من كادراتٍ تتناسب مع طبيعة المشهد الذي سيدور علي الشاشة، بدايةً من لقطات ال”Close ups” القريبة التي سلطت بؤرتها علي “فريد هامبتون” أثناء إلقائه للخطابات الثورية وسط حشود الناس، وأيضاً في مشاهد الإشتباك عن طريق عدم اللجوء للمزيد من ال”Shaky Camera” كي يعرف المشاهد طريقه للحدث ويتفاعل معه، بالإضافة للمونتاج الجيد في تركيب المشاهد وترتيبها بحسب وقت حدوثها فعلياً، وتصميم الأزياء والإنتاج الذي يناسب طبيعة الزمن الذي يدور فيه الفيلم ، وكما تميز “شاكا كينج” على المستوي التقني فهناك ثناءٌ أيضاً علي إختياراته المناسبة لفريق التمثيل، “دانيال كالويا” الموهبة الشابة الذي صعد إلي سلم المجد بسرعة الصاروخ بترشحه للأوسكار لأول مرة عن فيلم “Get Out” ها هو يعود مرة أخرى إلى ترشيحات الأوسكارهذا العام من جديد بأداء متفجر علي المستوي الإنفعالي وثوريٍ في إلقاء الحوار ينجح فيه في تطبيق (الميثود أكتينج) أو تقمص الشخصية المعطاة له كما هي مكتوبة ويعني هنا “فريد هامبتون” بكل صفاته وطباعه المعروفة عنه ، وقد حاز كالويا على جائزة جولدن جلوب كأفضل ممثل مساعد عن دوره، وترشح للأوسكار والفيلم بدوره قد حاز حتى الآن 6 ترشيحات لجائزة الأوسكار.
كان سيناريو الفيلم أميناً على سيرة فريد هامبتون، وعرض هامبتون كرجل ذي أيدلوجية انتقائية، مزيج من كل شيء يظهر لنا في الفيلم أكثر من كونه قومياً أسود، وليس مهتماً حتى بما يحدث في أفريقيا على وجه التحديد بصفتها أرض الأجداد من العبيد، ولا يهتم بالرمزيات السياسية، فنجده يسخر من تسمية أحد الكليات على اسم دكتور مارتن لوثر، كما يبدي ازدراءه للتعبير الثقافي للسود المتمثل في لبس السود لملابس تظهر هويتهم، فهو ماركسي لينيني ولديه فهم مادي صريح للواقع والنظام الرأسمالي الأمريكي، يقتبس من مالكوم إكس ومارتن لوثر كينج، رغم تعارضهما الظاهري ما يخدم أفكاره، ويضع يده في أيدي الحركات العرقية الأخرى في مجتمع شيكاغو.