” للعطر قوة إقناع أقوى من الكلمات، أقوى من الظاهر والإحساس والإرادة، لا يمكن مقاومة قوة إقناع العطر، إنها تتغلغل فينا كما يدخل الهواء للرئتين، إنها تعمر صدورنا تملأنا بالتمام والكمال، وليس هنالك وسيلة لدرئها أو مقاومتها”
“باتريك زوسكيند”
بتلك الفلسفة الوجودية قدم لنا الكاتب الألماني “باتريك زوسكيند” واحدة من أجمل الروايات الفلسفية، “العطر”، والتي تدور أحداثها في القرن الثامن عشر، عن رجل غريب الأطوار ينتمي إلى أكثر كائنات تلك الحقبة نبوغاً وشناعة وعبقرية “جان باتيست غرنوي”، والذي في سبيل صناعة عطره المميز لم يتوانى عن إرتكاب أكثر الجرائم بشاعة ودموية.
وكمعظم الروايات التي تناولت ثيمات الوجود الإنساني وصراع الذات، وكذلك لإعتمادها على القيمة الحسية والوصفية لربط القارئ بموضوع الرواية “العطر”، فقد كان من الصعب تحويلها لفيلم سينمائي يماثل عظمة الرواية، ولكن المخرج الالماني”توم تايكوير” تمكن من اقتباس فلسفة “زوسكيند” وقدم لنا واحد من أجمل الأعمال السينمائية،مزج فيه ببراعة فلسفة “زوسكيند” مع رؤيته الخاصة.
فلسفة العطر
للعطر عدة دلالات حسية ومعنوية، فبحسب فلسفة “زوسكيند” العطر هو الأثر أو الأنطباع الذي تتركه بداخل الشخص، هو هويتك الوجودية، قبولك عند الناس وقدرتك على السيطرة عليهم والتحكم بمشاعرهم.
ومن هذا المنطلق، استرسل “زوسكيند” في رسم خطوط حكايته، تاركاً لنا الكثير من الدلائل في كلماته وبين سطور روايته والتي تقودنا تدريجياً لهذا المبدأ ، فشخصية “غرنوي”، المولود بلا رائحة والذي لا يعرف شيئا في هذه الحياة غير الروائح، أقتصر تقييمه للعالم من حوله على حسب رائحته وأثره المحسوس، لذلك نجد أن حكمه على الناس ياتي من منطلق رائحتهم، فنجده يصف شخصاً بأن له رائحة سيئة ومقيته للدلالة على سوء طباعه واثره السئ وبالمقابل كان وصف “غرنوي” لأؤلئك الفتيات اللواتي قتلهن بأن لديهن رائحة عطرة، عبق نضر اي اثر طيب فمعظمهن كن يتمتعن بالبراءة والنقاوة، فلم يكن الجمال يعني شيئاً ل “غرينوي”، وتلك الفلسفة جسدها “زوسكند” في معظم سطور الرواية عند وصفه لرائحة اي شئ ثم بعد تعمقنا في فهم شخصياته نجد انه عطرهم يمثل إنعكاس لأثرهم أو طباعهم.
فإذا كان “زوسكيند” قد رمز للروح كمكون حسي او كدلالة على الأثر أو الطبع فأن “تايكوير” ذهب لأبعد من ذلك عندما ربط العطر بالروح بشكل مباشر وصريح، ففي مشهد أغتيال “غرنوي” لأول فتاة، نجد أن “غرنوي” ظل يستنشق عبيرها لوهلة، ولكنه بعد فترة قصيرة لاحظ أن مفعول العطر قد بدأ في الزوال بعد موت الفتاة، لذلك ظل يحاول يائساً أن يتمسك بذلك العطر لآخر نفس، على عكس الرواية التي سردت أن “غرنوي” ظل يستنشق في عطرها حتى وصل لمرحلة أقرب الى الثمالة ثم غادر قبل أن تنكشف جريمته.
أما إذا أخذنا العطر كشئ مجرد فان “زوسكيند” قد برع في وصف تفاصيل كل العطور ووصف الأثر الذي تتركه في نفس مستنشقها بشكل دقيق ومتقن مما جعل التحدي كبيراً امام “تايكوير” لنقله بصرياً، فاعتماد الرواية على الصورة الذهنية المجردة لنقل القارئ لعوالم العطور صعب من مهمة تحويلها للغة بصرية سينمائية، ولكن “تايكوير” لجأ لحلول ذكية مكنته من نقل ذلك الإحساس بصرياً، ولعل مشهد البداية ولحظة ولادة “غرينوي” هو أصدق مثال على ذلك، فقد تم عرض المشهد عن طريق القطعات المتكررة واللقطات السريعة المتتالية مع تكثيف الصور لمشاهد العفن والقذارة في باريس مصحوبة بصوت الرواي الذي يصف تفاصيل وحضور الرائحة.
ومن ثم الأنتقال للحظة ولادة “غرينوي” وإكتشافه للعالم لأول مرة عن طريق انفه.
الدوافع الكامنة لشخصية غرنوي
“غرينوي” ذلك الضئيل المنبوذ، المولود من رحم القمامة والعفن، والذي تربى من دون حب أو أهتمام وعاش بلا قيم أو مبادئ إنسانية، والذي كرس كل حياته في سبيل البحث عن عطره، عن أثره ووجوده، ليتحول ذلك إلى هوس قاده للقتل في سبيل تحقيق مراده وإيجاد ضالته.
بالطبع لانختلف حول براعة الممثل البريطاني “بن ويشاو” في تجسيد شخصية “غرنوي” وتقديمها بنفس الطريقة التي وصفه بها “زوسكيند” في الرواية، ولكن الاختلاف بين الرواية والفيلم يظهر في دوافع الشخصية، “فغرنوي” في الرواية قد نبذ العالم قبل أن ينبذه وأختار أن يعيش على حسب رؤيته الخاصة،فهو شخص يقيم الاشياء بناء على رائحتها، لايعرف عن الحياة شيئاً سوى الروائح، المجردات مثل الحب، الخير، الجمال والخطيئة لم يكن لها وجود في عالمه ولايعرفها لانه لايستطيع شمها.
والأختلاف البسيط بين الفيلم والرواية نبع من تقديم “تايكوير” ل “غرينوي” كشخص يحاول بكل السبل إثارة إعجاب الناس ونيل حبهم، وتحويل كل دوافعه وإختزالها في البحث عن تلك المجردات، ففي مشهد الساحة حيث تم الحكم على “غرينوي” وفي لحظة معينة رأينا غرنوي وهو يتخيل أول فتاة قتلها وهي تحتضنه وتبادله شعور الحب، في دلالة لأن ذلك الحدث الصغير كان بأمكانه تغيير مصير غرنوي.
وقد عزز ذلك بأختزاله لمشاهد عزلة “غرنوي” في الجبل والتي تم وصفها بإسهاب في الرواية وكانت أحد أسباب تغيير “غرينوي” بعد أن وصل لحالة التسامي عن كل هذا الوجود الانساني المقزز ونبذه، ليدرك في لحظة تجلي انه بلا رائحة، بلا أثر أو وجود.
لتجتاحه رغبة مُلحة في أن يثور على قدره ويقرر تغيير مصيره، ، وتلك كانت اللحظة المفصلية في حياته والتي أيقظت وعيه الكامل للبحث عن معنى لوجوده وكينونته، عن عطره المميز، إحتاج لأن يكون موجوداً لأن يلحظه الناس وأن يكون له تأثير عليهم، تعاظمت تلك للرغبة بداخله وتعدتها لمحاولة السيطرة علي الناس وإخضاعهم لسطوته، وهو ماقاده لإرتكاب كل تلك الجرائم.
رمزية المكان
واحدة من أهم ثيمات الرواية والتي عجز الفيلم عن تقديمها، هي إستخدام مدينة باريس في تلك الفترة الزمنية كموطن لأحداث الرواية، في إسقاط لحال الانسان في تلك الفترة، في عصر ماقبل التنوير، وسيطرت العادات والتقاليد والفروق الطبقية على منحى حياة الناس، فأصبحت مسالة سن القوانين وتحديد نسبية الصواب والخطأ أمر تحدده الكنيسة والطبقات الأرستقراطية، فكان غياب الإرادة الكاملة هي الثمة الغالبة على إنسان تلك الفترة، فنشأ مجتمع مسلوب الإرادة ومغيب التفكير، فكانت محاولات مخالفة التيار السائد ومحاولة ابتكار شئ جديد او مختلف تُقابل بالرفض والإستهجان، لذلك اختلط على الناس التمييز حتى بين الروائح، فغابت حاسة الشم لديهم مع غياب العقل والإرادة الكاملة، فتحولت تلك التي تعرف اليوم بعاصمة العطور، تحولت إلى مستنقع من النتانة والعفن، وقد عبر “زوسكيند” عن تلك الفلسفة بحوارات ذاتية مطولة لشخصيات روايته.
وبالرغم من أن المخرج “تايكوير” قد نجح بشكل كبير في تقريب وجهات النظر بين الرواية والفيلم، إلا إن فلسفة “زوسكيند” كانت أكبر وأقوى من كل تصور.