نبدأ هذه السلسلة الرائعة التي سوف نتناول فيها العلاقات الدبلوماسية بين مملكة كوش و الممالك المعاصرة، و نبدأها بالعلاقات الكوشية المصرية.
حيث كانت العلاقات ودية بينهما إلا أن هذه العلاقات تعتريها بعض النزاعات أحيانا بسبب انشغال مصر بالفتن الداخلية و الحروب الخارجية، و اسمرت هذه الحالة حتى عهد الأسرة الخامسة و العشرين الذين استولوا على مصر و حكموها حوالي قرن من الزمان إلى أن جاء بسمتيك الأول و أنهى حكم آخر ملوك كوش من اقليم طيبة.
علاقة مملكة كوش بمصر في عهد الملك بيي (بعنخي) :
لقد قسم المؤرخين عهد بيي إلى فترتين و تشمل الفترة الأولى السنة التاسعة عشر من عهد بيي، و الفترة الثانية التي حدثت في السنة العشرين حتى نهاية عهده، ففي الفترة الأولى كرس كل جهده لضم الأجزاء الجنوبية من مصر بما في ذلك إقليم طيبة فقد جاء في لوح النصر
(بلغني أن الأمير تفنخت استولى على مدينة منفيس وغيرها من المدن في الشمال وسار نحو الجنوب بجيش جرار فأطاعته الأمراء وأعيان البلاد)
و يتضح من هذا أن هنالك كتيبة من الجيش الكوشي في طيبة الذي قام بدوره بالإرسال إلى بيي الذي كان موجوداً بنبتة فنقلوا له تحركات تفنخت أمير مدينة صايص المصرية واستلائه على المدن الشمالية و سار نحو الجنوب فحاصر المدن الجنوبية حصارا شديداً، ومنع أهلها الدخول و الخروج واستمر حصارها حتى استولى عليها، ففي بداية الأمر لم يهتم بيي بهذه الأخبار لكن بعد فترة وصلته أخبار بأن نمرود رئيس الأشمونين هدم حصون المدينة ودمرها (نقض عهده لبيي) وانضم إلى جيش تفنخت وشاركه في حصار مدينة هيرالكيوبولس، وارسلوا خطاباً إلى الملك بعنخي ليعلموه بما كان يحدث، فغضب غضباً شديداً بسبب خيانة نمرود له فأمر قادة جيشه ان يتحركوا لحصار هيرموبرلس، وزودهم بإرشادات وتوجهات عسكرية، فتقدموا نحو المدينة وفتحوها.
وبعد سماع تفنخت بهذه الاخبار انسحب من المدينة نحو الشمال وهرب نمرود جنوباً لحماية عاصمة الأشمونين إلا أنه وجدها محاصرة من كل الجهات، حيث يذكر النص أن حصار المدينة بدأ بفترة قليلة قبل بداية السنة الجديدة
(لأقاتلن بنفسي وأهدمن جميع حصونهم ولكن يلزمني قبل ذلك أن أحتفل بموسم رأس السنة الجديدة في جبل البركل وأقدم القرابين لأبي آمون البركل ثم أتوجه إلى طيبة لأشاهده هناك في موسم عظيم ).
ولما كان اليوم التاسع( موسم الفيضان) غادر بيي نبتة ووصل بجيشه إلى طيبة واحتفل فيها بموسم آمون السنوي، ثم توجه إلى هيرموبرلس وأمر بإحكام الحصار عليها حتى استسلمت المدينة وكان بداخل المدينة زوجة الخائن نمرود، التي أرسلها لتترحم وتطلب العفوا له من زوجات واخوات الملك بيي (دور المرأة ) فقد نجحت في ذالك ولم يعدم نمرود ولكن تمت مصادرة جميع ممتلكاته، والتي قسمت ما بين اتاوة لملك بيي ومابين اعطيات للمعابد.
ثم جاءه ملك هيركليوبوس بهدايا من الذهب الفضة والحجارة الكريمة كدليل على خضوعه له.
ثم سار بجنوده شمالاً قاصدا مدينة منفيس كبرى مدن مصر آنذاك، وقد عرفت بمناعة اسوارها وقوة بأسها. وكان كلما مر بمدينه يدعوها لتسليم فسلمت له العديد من المدن، وتسلل تفنخت ليلاً إلى منفيس قبل وصول بيي إليها وامد اهلها بتعزيزات عسكرية ومؤن، أما بيي وجنوده فقد اجتمعوا وتشاوروا حول أنجح خطة التي يجب اتباعها فإتفقوا بأن يهاجموا المدينة وبذلك دخل المدينة وقتل من اهلها خلقاً كثيراً واحصى اسرها بين يديه.
ثم قام بزيارة لمعبد بتاح
وتعبد فيه وقدم الاعطيات.
وفي اليوم التالي عاد إلى الشاطئ الذي فيه سفنه وسار إلى المدن حيث هرعوا إليه جميع ملوكلها معلنين استسلامهم وخصوعهم له.
ولما بلغت هذه الأخبار مسامع تفنخت الذي ظل يهرب من جنود بيي فأرسل إليه الملك الكاهن الأعظم ورئيس الجيوش فاعطاهما تفنخت فضة وذهبا معلناً استسلامه له.
وخضعت لبيي منطقة فيوم وما حولها من الالفنتين في أقصى الجنوب إلى أحراش الدلتا في أقصى الشمال.
ولما كان صباح اليوم التالي أتاه أربعة ملوك ليقدموا تحيتهم للملك بيي فلم يأذن لهم بالدخول عليه لأنهم غير مختنين وكانوا ياكلون السمك ولكنه أذن لنمرود بالدخول لأنه كان طاهرا ولايأكل السمك.
و لما تمت له الغلبة على مصر الحقها ببلاده وأبقى أمراءها
الإمتياز الذي كان لهم من قبل نائباً له وملكا على صايص،وعاد إلى نبتة شاحنا سفنه بكل أنواع الغنائم والنفائس.