جرائم عهد الإنقاذ “٢” :
من الاشتباك إلى النزاع وصولاً إلى حرب أشعلت النيران، فإن حرب دارفور التي اندلعت في غرب السودان كانت إحدى الملفات الدموية الشهيرة في عهد الإنقاذ والذي راح ضحيتها قرابة الأربعة ملايين من القتلى والنازحين لكن دعونا نتعرف على الأحداث من قرب، أي قبل ١٨ عاماً بالتحديد وكيف تعاملت الحكومة مع هذا التمرد.
جذور الأزمة قبيل الاصطدام :
ما انفكت التفسيرات التي تدور حول جذور الصراع في إقليم دارفور محل خلاف إلى الآن، ولكن دعونا نتفق على أن :”النار من مستصغر الشرر” حيث نشأ أصل الخلاف بين رعاة الأغنام وأهل الأرض وبين العرب السودانين والافارقة الذين يعيشون في الإقليم، ومن أسباب تفجر الأزمة أيضا الجفاف الذي حل على المنطقة في التسعينات وعدم توفر الماء للمزارعين قاد لاشتباكات مع السلطة، ولكن السبب الرئيسي الذي أشعل عود الثقاب في المكان هو “إدعاءات التمييز أو الفرز العنصري” وقبل أن نتبحر في الحكاية يتضح لك عزيزي القاريء أن هذه الجريمة ترتبط بصراع عرقي وقبلي فجر أزمة سياسية خطيرة على المدى الطويل، حيث صنفت على المستوى العالمي بجرائم حرب ضد الإنسانية.
التمرد الذي أعقبه التشرد :
تداعيات التهميش الذي لازم أهل المنطقة كان له الأثر في شق فجوة وزعزعة الاستقرار بين أهل دارفور والحكومة، فبصريح العبارة اِتُّهِمت الحكومة السودانية بممارسة التحيز العنصري ضد المواطنين السودانيين غير العرب وفي الحديث في هذا الصعيد يتضح لنا كما ورد في بعض المصادر أن الحكومة سعت لتحويل المجتمع إلى مجتمع عربي بالكامل عن طريق تعريب المنطقة. وكما تجلى لنا في الجزء السابق أن سياسات الإنقاذ عملت أيضا على تعريب المناطق الشمالية مع الحدود، من أجل إشاعة وبسط مشروعهم الإسلامي إذ ظلت تمارس حروبها الباردة هنا وهناك..
كر وفر بين المتمردين والحكومة :
كان العام ٢٠٠٣ من أشرس السنوات الدموية في تاريخ السودان الحديث حينما قام التحالف الثنائي (حركة تحرير دارفور وحركة العدل والمساواة) بشن الغارات على المواقع العسكرية.. ولكن، لكل فعل رد فعل وخصوصا إذ كان يمس لنا قضايا أمنية أو عسكرية ومنذ ذلك الحين لم تخمد المناوشات بين الطرفين وفي المنتصف سالت الكثير من الدماء البريئة وتشرد الآلاف من مواطنهم خشية هذه الحرب. وفي هذا السياق كانت هذه المجموعات المتمردة تقاتل بوحشية ولكن يتبادر إلى ذهنك عزيزي القاريء من أين حصلت هذه المجموعات على الأسلحة والذخائر وغيره من السيارات والبنادق التي تقاتل بها ! فيما يلي نورد بعضاً من النقاط التي احتلها المتمردون وتحصلوا على غنائم بعد تدميرها مثل :
– غولو المقر الرئيسي لمنطقة جبل مرة.
– مخافر الشرطة.
– نقاط الجيش والقوافل العسكرية.
– حامية قرية تين.
خسارة الجيش المستمرة وظهور مليشيات الجنجويد :
فشل الجيش في حسم الحرب والتمرد في دارفور جعل وضع الجيش في مأزق كبير، فكأنما هو غير مدرب على التصدي لفئة متمردة.. وسرعان ما عمل المخلوع على الاعتماد على مليشيات غير نظامية من أجل مناهضة هذا التمرد وهنا حلت الكارثة على السودان بأكمله فهذا القرار كان له تأثيرا سلبيا على المدى الطويل سواء كان على الصعيد السياسي أم الأمني أو حتى الاقتصادي.
الإبادة الجماعية وارتباطها بالجنجويد :
كلمة جنجويد (مصطلح سوداني) وهي كلمة مركبة في مجملها تعني الرجل الذي يمتطي الخيل ويحمل السلاح، وهم من القبائل العربية النازحة التي استقرت وتداخلت مع القبائل الإفريقية في غرب السودان وقد اشتهروا باحترافهم في النهب المسلح بمنطقة دارفور.. ولكن بتحفيز وتشجيع من نظام المخلوع نشطت هذه المليشيات بشكل كبير في كبت وقمع المتمردين والتصدي لهم في دارفور.. راح ضحية هذا القمع الآلاف من المدنيين وكون وراءه شلالات من الدماء على إثر تلك القرى التي حرقت وأبِيدت بالكامل علاوة على عمليات الاغتصاب والنهب.. ولكن دعونا نستوقف هنا قليلاً، فاعتماد النظام البائد على هذه المليشيات وثقتها الكبيرة فيها وخصوصًا في قائدها محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي وضح لنا مدى سذاجة النظام السياسي أي (المؤتمر الوطني) أيام عهد المخلوع الذي ارتهن بمجموعة مليشيات غير نظامية وغير مدربة عسكريا في إدارة المشاكل الداخلية وقمع المتمردين وشكل لنا معنى ” قوة السلاح فوق كل شيء” .
ردود الفعل الدولية ومذكرات المحكمة الجنائية :
شغلت قضية دارفور حيزاً كبيرا على المستوى العالمي ورغم التكتم الإعلامي الشديد للقضية من قبل الحكومة آنذاك من أجل التستر على الجرائم المروعة ؛ أحال مجلس الأمن القضية للمحكمة الجنائية الدولية في مارس ٢٠٠٥ وبعدها أصدرت مذكرات اتهام بحق متهمين الإبادة الجماعية :
١-المخلوع عمر البشير (الرئيس السابق).
٢- أحمد محمد هارون (وزير الداخلية آنذاك).
٣- عبدالرحمن محمد حسين (وزير الدفاع السابق).
٤- علي محمد “علي كوشيب”(أحد قادة الجنجويد).
٥- بحر إدريس أبو قردة (زعيم جبهة المقاومة المتحدة).
معاهدات السلام.. اتفاقيات على ورق! :
منذ عام ٢٠٠٤ وعلى مر السنين كانت المفاوضات التي تنادي بوقف إطلاق النار من أجل إخماد الحرب في غرب السودان لم تحقق أي نتائج مجدية؛ ولم تساهم في تهدئة الأوضاع سواء كانت محلية أو إقليمية، فمنذ الاتفاق الأول الذي كان في تشاد عام ٢٠٠٤، والاتفاق الذي تلاه بعامين في دارفور والذي وقعت فيه الحكومة اتفاق في دارفور مع فصيل ميني ميناوي في جيش تحرير السودان وصولا لآخر اتفاق سلام والذي عرف باتفاقية سلام جوبا، جميع تلك الاتفاقيات كانت مجرد حبراً على ورق ولكن على أرض الواقع مازالت دارفور تنزف وتحصد الأرواح.
تعقيبات على سياق الأحداث :
لم تدرك حكومة الإنقاذ أن قضية دارفور يمكن احتوائها قبل أن تتحول إلى حرب أفتكت بجميع الأطراف، فكما ذكرنا سابقاً أن جذور الأزمة لم تكن سوى خلافات صغيرة يمكن حلها في وقت قصير، وحتى تداعيات التهميش كان تراكمات غفلت الحكومة البائدة في الإلتفات إليها ، فبعد أربعة أعوام من المفاصلة الشهيرة وجدت الحكومة نفسها أمام حرب قبلية في الغرب تعاملت معها بالاستناد على مليشيات غير نظامية، وظل الجمود السياسي زعيم الموقف آنذاك وأن مشكلة الاتفاقيات كانت مجرد بيانات من غير عمل، وإذا لم يكن هنالك حلا جذرياً لقضية دارفور لربما سيُعاد لنا سيناريو جنوب السودان مرة أخرى.. وعلى هذا الحال ظل السودان بسبب الإنقاذ وحكومة المخلوع يعاني في شماله وشرقه وغربه وجنوبه.
ترقبوا في الجزء القادم والخاتم لسلسلة جرائم عبر القرون والذي سنروي فيه عن مجزرة القيادة العامة، كأشنع الجرائم في التاريخ المعاصر.. يتبع.