لا إبداع بلا حرية، فالإبداع يتعارض مع كل قيد سواء أكان مادي أو معنوي، فكلما ازدادت رقعة الحرية حسُن الفن، والسينما كغيرها من الفنون الإبداعية تكره القيود والتحجيم، فهل يمكن للفنان أن يبدع في وجود رقيب؟ وهل يمكن أن تكون هنالك سينما عظيمة في ظل وجود قيود رقابية؟ بالتاكيد لا ..ولكن ما رأيناه في السينما الأيرانية كان غير ذلك كله، فقد استطاع المخرجين الإيرانين وبرغم القيود المفروضة عليهم أن يقدموا للعالم أفلام متميزة وصلت لمصاف العالمية.
خلفية تاريخية:
عرفت إيران صناعة السينما مبكراً فقد تم إنتاج أول فيلم إيراني في العام 1930م، وقد كانت متأثرة بالسينما الهندية والإمريكية في بداياتها، حتى جاءت فترة الستينات وبدأت السينما الإيرانية تأخذ إتجاهاً مستقلاً يعبر عنها، وظهرت موجة جديدة من المخرجين الإيرانيين الذين إبتدعوا تقنيات جديدة جعلت السينما الإيرانية شبيهة بغريمتها الإيطالية من حيث تبنيها لمنهج الواقعية الجديدة، وهو منهج يقوم على إنتاج أفلام تتناول حياة الفقراء والطبقة العاملة، ويعتمد فيه المخرجين على اللقطات الطويلة التي لا تتطلب إمكانيات تقنية عالية مع الإستعانة بممثليين غير محترفين، وهو ما كان لزاماً على المخرجين الإيرانيين في ظل ضعف الإمكانيات المادية.
وقد بدأت هذه الموجة عندما تم عرض فيلم “البقرة” للمخرج “داريوش مهرجوئي”، والذي يتتبع يوميات فلاح بسيط متعلق ببقرته الوحيدة، وكيف تنقلب حياته وحياة أهل القرية راساً على عقب بعد موتها، وجاءت أهمية هذا الفيلم من كونه يشير إلى حالة إجتماعية تقبل التأويلات السياسية.
وقد منع هذا الفيلم من العرض أيام حكم الشاه، لأنه وعلى حد زعم الرقابة، يتعارض مع صورة إيران العصرية ، ولكن هُرب الفيلم للخارج وعرض في مهرجان البندقية، ولاقى إحتفاءً واسعاً من قبل النقاد.
ومع ارهاصات الثورة الإسلامية في إيران عاشت السينما ظروفاً قاسية ابتداءً من حادثة حرق دار سينما “ريكس” والتى راح ضحيتها أكثر من 400 شخص، تلى ذلك حرق عدد من دور العرض الأخرى وإغلاق عدد كبير منها وسحب أفلامها، فصار لزاماً على كل فيلم أن يجتاز أربع مراحل قبل عرضه،فمن بين 2200 فيلم تم سحبها لإعادة فحصها فقط 200 فيلم إستطاعت أن تنجو من مقص الرقابة، ليبدأ بعدها عهد جديد من التضييق والتحجيم على المخرجين الأيرانين.
وفي تلك الفترة التي أعقبت قيام الثورة الأسلامية كانت الصورة ضبابية أمام صناع السينما حتى أعلن “الخميني” عن توجهات الدولة الجديدة ناحية السينما حينما قال” أن السينما يجب أن تستخدم في تثقيف الشعب، دون أن يساء استعمالها” معلناً بذلك عن بداية حقبة جديدة في تاريخ السينما الإيرانية.
عاشت إيران في تلك الفترة عُزلة دولية خيمت بظلالها على صناعة السينما المحلية، وهي القضية التي ناقشها بعض المخرجين الإيرانيين برمزيات ومجازات مسسترة، ففي فيلم ” الراكض” 1984م رسم المخرج ” أمير نادري” صورة فريدة لصبي بمعزل عن العالم متيم بالركض في رمزية عميقة ومؤثرة.
“علينا أن نحاول ربط الأكاذيب للوصول إلى حقيقة أعظم لعالم يبدو حقيقيا، الأكاذيب التي ليست حقيقية، لكنها صادقة بطريقة أو بأخرى، هي حيلتنا الوحيدة”. عباس كياروستمي
بهذه العبارة لخص المخرج الإيراني الكبير “عباس كياروستمي” حال السينما الإيرانية بعد الثورة الإسلامية في ظل وجود الرقابة ولائحة الممنوعات الكثيرة والتي كان على المخرجين التحايل عليها لإيصال مايريدونه من دون أن تتعرض أفلامهم للمنع او أن يتعرضوا هم أنفسهم للسجن او المنع من صناعة الأفلام.
فصار لزاماً على المخرجين الإيرانيين أن يتماهوا مع تلك القيود الرقابية حتى وإن كان ذلك التماهي يقودنا لمشاهدة طفلة صغيرة تقوم بواجباتها المنزلية مرتدية غطاء الرأس أو أمرأة تخلد للنوم بحجابها الكامل، ففي السينما الإيرانية يمنع ظهور النساء والأطفال بدون حجاب ويمنع التلامس كما يمنع وبشكل قاطع إنتقاد سياسات الدولة أو حتى مناقشة القضايا الجوهرية التي تمس المجتمع الإيراني مثل البطالة والفساد وغيرها.
ومع وجود كل هذا الكم من القيود الرقابية لم يجد المخرجين الإيرانيين سبيلاً غير التحايل على تلك القيود بقول كل مايريدونه وإيصال رسائلهم ولكن بطريقة مجازية مسسترة، مختبئين خلف إيحاءات الصور والكادرات ومجازات اللغة والحوارات السينمائية.
فقد يكون المجاز مختبئاً في حوار طفولي بسيط ولكنه يحمل بين ثناياه تساؤلات فلسفية عن الحياة، عن الحب وعن الحرية والقيود.
أفلام الطفولة:
تمثل الطفولة ركيزة اساسية في السينما الإيرانية حتى أضحت علامة مميزة لأفلام مخرجين مثل “مجيد مجيدي” و”عباس كيارستمي”، فمن خلال تلك الأفلام تمكن المخرجين الإيرانيين من توثيق حياة المواطن الإيراني البسيط وعرض كل القضايا الشائكة التي يواجهها بشكل غير مباشر معتمدين على المجازات المختبئة في تلك الحوارات الطفولية البريئة حتى يتسنى للفيلم الأفلات من مقص الرقيب.
وتميزت هذه النوعية من الأفلام ببساطتها ومقدرتها على الغوص في خبايا النفس البشرية ومناقشة اقصى تعقيداتها بأسلوب سلس وممتع، وقد ساهمت أفلام الطفولة في ظهور إتجاه جديد في السينما الإيرانية تستخدم فيه السخرية والكوميديا السوداء لعرض ومعالجة القضايا.
التحدي الكبير الذي واجهه السينمائيين الإيرانيين وضعهم أمام خيارين؛ إما أن يتماشوا مع تلك القوانيين وينتجوا أفلاماً تخضع لقيود النظام مستفيدين بذلك من أبسط المعونات التي توفر لهم، او أن يعملوا بشكل مستقل بعيداً عن عيون الرقابة وبأقل التكاليف الممكنة متحملين بذلك مخاطر قد تؤدي بهم الى السجن إذا ما إنكشف إمرهم.
فمخرجين مثل “جعفر بناهي” و” محمد روسولوف” تحدوا قيود النظام وبشكل صريح فكان مصيرهم السجن او الأقامة الجبرية مع المنع من صناعة الأفلام وهو مصير واجهه الكثير من المخرجين الإيرانيين الذين أختار بعض منهم حياة المنفى حتى يستطيع أن يخرج أفلاماً لاتخضع لرقابة الدولة المتشددة.
ومن ناحية أخرى وبالرغم من الإقامة الجبرية المفروضة على هؤلاء المخرجين إلا أنهم إستطاعوا أن يصنعوا أفلاماً تميزت بخوضها في موضوعات سياسية وإجتماعية محظورة، وغالباً مايتم عرض هذه الأفلام في المهرجانات الدولية الخارجية فقط بعد أن يتم تهريبها للخارج.
ورغم وعورة الطريق وصعوبة المشوار إلا أن أفلاماً مثل “طعم الكرز” و”أين منزل صديقي” للمخرج الكبير “عباس كيروستامي” و”أطفال الجنة” ل “مجيد مجيدي” وأيضاً “أنفصال” و “البائع” ل “أصفر فارهادي” تمكنت من أن تضع إيران على خارطة السينما العالمية وأن تقتنص أكبر الجوائز مثل جائزة الأوسكار والتي فاز بها المخرج “أصغر فارهادي” عن فيلميه السابقين.
كما تمكنت أربعة أفلام إيرانية من حجز مكانها في قائمة أفضل مئة فيلم أجنبي وهي “عن قرب”، “إين منزل صديقي” و “طعم الكرز” للمخرج “عباس كيروستامي” وفيلم “أنفصال” للمخرج “أصفر فارهادي”
.A separation بساطة السرد وعمق المضمون
كل ماصقلت الحديد كلما ظهر معدنه اكثر وهذا هو حال السينما الايرانية فالبرغم من تضييق الخناق عليها وبالرغم من قلة الامكانيات إلا أنها إستطاعت أن تطوع كل هذه القيود والمحاذير وأن تصنع أفلاماً عظيمة إستطاعت أن تضع بصمتها الخاصة في صناعة السينما العالمية.