كبرنا في مجتمع يغرس فينا معتقد السعي وراء المثالية والهوس بالكمال بطريقة تختصر الهدف الأسمى من وجودنا الإنساني. نشأنا ونحن نراقب تسابق مدارسنا لتكريم الطالب المثالي، وتهافت مجلاتنا للحديث عن صفات الزوج المثالي، واكتظت مجالسنا بالحديث عن صفات الزوجة المثالية، ونقطة البداية كانت بالحب المشروط من قبل الوالدين فيكبر الأطفال مجندين لخوض حياة مثالية خشية النقد أو الرفض، ويمضون في دروب الحياة بين الواقع والتوقع، والخيال الممتلئ بما يعتقدونه فقط.
في حين إذا استيقظوا من حالتهم تلك يجدون أن سعيهم وراء الكمال مقترن بمقارنة حالهم مع أبناء العمومة أو الأصدقاء؛ فالأول يسعى لدراسة تخصص معين والآخر يشتري بيتاً ضخماً أو سيارة فارهة باحثاً عن أفضلية وهمية؛ ولا يهمهم إذا نال طفل مراهق درجة الدكتوراه من جامعة مرموقة أو اختراع طفل لساعة ذكية يُعتقل على إثرها! ويظل هذا العقل المظلم مترقباً ينتظر من حوله ليغمروه بكلمات الإعجاب والدهشة.
السعي وراء الكمال ليست ظاهرة حديثة بل هي متجذرة في عمق التاريخ، قديماً كان العرب يتغزلون بالتمام والكمال لدرجة أنهم إذا أرادوا مدحوا أحدهم يقولون: (كامل والكمال لله) وتغنوا بكامل الأوصاف مثل ما غناها العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ في أغنيته الشهيرة…(كامل الأوصاف فتني.. والعيون السود خدوني.. من هواهم رحت أغني…) ولأبي الطيب المتنبي أبياته الرائعة حيث قال: ولم أر في عيوب الناس عيباً، كنقص القادرين على التمام!
قد يبدوا الكمال في نظرته العامة هدفاً نبيلاً وغايةً سامية وصفةً مرموقة، ولكنه يخفي وراء ثوبه الأنيق شخصية مهزوزة تخاف من انتقادات العابرين وتعجز من مواجهة العالم بكل ما فيه مؤيدين وناقمين، معجبين وكارهين. فالمثاليون يريدون أن يكونوا بلا أخطاء، فتصبح حياتهم عبارة عن سعي لإرضاء الآخرين وحصد كلمات المدح والإعجاب كوقودٍ لاستمرارهم بفخر في هذه الحياة.
الكمال صوت تعسفي في داخل الشخص الساعي للمثالية؛ يتحدث عن الأمور بصوت الأسود والأبيض، الكل أو لا شيء، لا يعترف بالحلول الوسطى والمناطق الرمادية.
الأشخاص المهوسين بالكمال تجدهم لا يتحدثون عن مخاوفهم لا يعبرون عن مشاعرهم غير قادرين على خوض تجربة غير مضمونة النتائج كما يظنون. فيعطلون بعض أعمالهم خوفاً من ألا يحققوا النجاح الذي يطمحون إليه.
السعي وراء الكمال قد يعيش في مخيلة أي منا لكنه يزدهر ويرسخ ويتمدد بشكل مخيف عند الكثيرين من أصحاب العقول العظيمة، ربما لأنهم مطلعون بشكل دائم على الأفضل والأجود فلا يهتمون بما يملكون من قدرات فيتضاءل عطائهم بمقارنتهم بين ما يجهلونه أمام ما يعرفونه.
فيعيشون تحت الأضواء … يكتبون والقراء أمام أعينهم، ويرسمون والنقاد في مخيلتهم ويعزفون والجمهور يترصد لهم.
تذكرت قصة الرسام بول سيزان الذي كان يرسم ولا يوقع على لوحاته ظناً منه أنها لا تستحق؛ فيخزنها على أمل إكمالها لاحقاً حتى انتهى به المطاف بأن يوقع 10% فقط من لوحاته أما بقية تلك اللوحات العظيمة فهي في نظره لا تستحق أن تنسب لوالدها الشرعي!
وبالمقابل فيما كان بول سيزان يقمع ويقتل نتاج إبداعاته؛ عظمت نتاجات النحات الإيطالي مايكل أنجلو في عينيه لدرجة أنه خاطب أحد تماثيله ظناً منه أنها تمثل الكمال بصورته المطلقة! وظل يصرخ كالمجنون انطق يا موسى؛ منتظراً من تلك المنحوتة الرخامية أن تنطق وترد عليه وحين لم تجبه ركلها بمطرقتة حيث وجدها عاجزة عن الرد، ليتحول ذلك الكسر في ركبة تمثال موسى إلى العيب الأشهر في تاريخ المنحوتات يشد الناس الرحال إليه في روما ليقفوا أمام أحد أشهر المنحوتات التي اختزلت العلاقة المضطربة بين الفنان وأعماله.
ولكن هل يمكن للكمال أن يكون مليئاً بالعيوب؟
الإجابة رغم غرابتها نعم… فأحد أسوأ عيوب الكمال أن تصبح الحياة لهثاً للوصول الى النتيجة؛ متناسين أن المتعة في رحلة الوصول فتعيش على حواف الأشياء حزيناً لأنك لم تصل إلى نهايتها، دون أن تحتفل بالنجاحات والإنجازات التي حققتها وبخستها!!
ختاماً: كم عدد التجارب التي لم تُقدم عليها لأنك لم تشعر بأنك مستعد كفاية؟ كم عدد الفرص التي لم تغتنمها لأنك لم تشعر بأنك جدير كفاية؟ كم عدد المنابر التي لم تعتليها لأنك لم تشعر بأنك فصيح كفاية؟ علينا أن نعي الفرق الشاسع بين الإتقان والكمال لننعم بحياة أهدأ وسلام نفسي نستحقه جميعاً.
5 تعليقات
جميل جدا بالتوفيق دائما
اشكرك على دعمك المعنوي المستمر♡
أشكرك جزيل الشكر
مقال عميق
المثالية ليست عيبا أن ما العيب كل العيب أن يحصر المرء نفسه بين والأسود في حين أن معظم الناس والأشياء الجميلة في المنتصف والوسط والوسطية ميزة عند المسلمين.
موفقه الرائعه فدوى احمد
كن انت لتستمتع بحياتك .. لا تكن مثاليا لترضي الاخرين الانسنان المثالي يبحث عن التحفيز الخارجي ويظلم نفسه في اكثر الاحيان