مدينة في الخاطر …حلفاية الملوك
عبقرية الزمان والمكان جعلت منها نموذجاً ورمزاً للتمازج القومي في السودان.
تقع حلفاية الملوك على بعد حوالي السبعة أميال شمال الخرطوم بحري وكانت تعرف بالحلفاية. ولما انتقل إليها العبدلاب من قري في عام 1747م واتخذوها عاصمة لهم أضيفت إلى ملوكهم فأصبح إسمها الشائع حلفاية الملوك. والجدير بالذكر أن مملكة سنار كانت مملكة ثنائية بعاصمتين:
سنار عاصمة للفونج في الجنوب، وقري عاصمة للعبدلاب في الشمال. وتعزى أسباب ذلك الانتقال إلى تمركز قوة العبدلاب بمرور الزمن في الحلفايا،
خاصة وقد تميزت أراضيها بالخصوبة وصلاحيتها للزراعة، إضافة إلى سعتها بالمقارنة مع قري المحدودة السعة والخصوبة، وقد توافق هذا التحول مع تزايد ضغط الشايقية على مشيخة العبدلاب من الشمال ونزوح مجموعات كبيرة منهم، فرساناً ورعاة، إلى هذا الإقليم وإقليم شندي. وقد ظهر أثر ذلك في الحلفايا نفسها إذ برزت بوادر النفوذ فيها.
وقد اختلفت الآراء في معنى الحلفايا. والراجح من تلك الآراء يرجعها إلى النبات المعروف بالحلفا.
وشاهد الحال يوحى بأن منطقة الحلفاية قديمة النشأة لقربها من مركز السلطة في مملكة علوة التي كانت عاصمتها سوبا، ولغناها ولخصوبة أراضيها الواقعة على النيل، ولوقوعها على الطريق التجاري المعروف بـ (درب الجمل) بين الدامر والحلفاية.
الحلفاية خلال العصور:
يجدر بنا أن نشير إلى أن الحلفاية لم تكن تعنى في كل الأزمان مدينة الحلفاية بحدودها المعروفة لدينا الآن بل كانت تشمل في بعض الأزمان منطقة واسعة تضم ما حولها. وتشمل فيما تشمل منطقة الخرطوم بحري . إذ أن اسم منطقة الخرطوم بحري لم ينتشر إلا مؤخراً، وكثيراً ما كان يشار إلى الخرطوم بحري بالحلفاية واستمر ذلك إلى عهد قريب كما يشير إلى ذلك اسم السينما المسماة بالحلفاية بحي الأملاك ببحري.
وفي العهد التركي (1821 ـ 1885)م تقلصت أهمية الحلفاية بزوال مشيخة العبدلاب. ورغم ذلك فقد ظلت المدينة بحكم موقعها وميزاتها المتعددة ذات اثر على الخطط الإدارية لمختلف العهود التي تعاودت على المنطقة ففي عهد الأتراك هذا ظلت عاصمة للمناطق التي تقع شمال النيل الأزرق التي كانت خاضعة لمشيخة العبدلاب. ورغم أن الأتراك انشأوا عاصمتهم في الخرطوم، فإن الحلفاية ظلت عاصمة لإقليم كبير يضم الحلفاية والنيل الأبيض.
وفي عهد المهدية (1885 ـ 1889)م قسمت البلاد إلى ثماني ولايات وأصبحت الحلفاية بمقتضاها تقع في ولاية شرق النيل الكبير التي تمتد من النيل الأزرق حتى حجر العسل شمالاً، ولم تعد تابعة لولاية الخرطوم.
وفي عهد الحكم الثنائي (1899 ـ 1956)م سويت حدود الحلفاية عام 1902م لتمتد جنوباً حتى مزرعة جامعة الخرطوم بشمبات ومدرسة الربعة حالياً، ومن السكة الحديد وحتى النهر. ويفهم من روايات أهل الحلفاية أن الحكومة الانجليزية، وقد وضعت الخطة لاتخاذ الحلفاية مركزاً إداريا في البداية، ثم عدلت عن ذلك حين لم يتحمس أهل الحلفاية للخطة. فنقل المركز ومحطة السكة الحديد للخرطوم بحري. ومن الواضح أن توسع الخرطوم بحري وتطورها كان على حساب الحلفاية إلى تقلصت مع الزمن إلى حدودها الحالية.
الخريطة البشرية:
تقع الحلفاية في قلب منطقة التمازج الكبير بين البشر وبين الثقافات في منطقة النيل الأوسط التي تضم معظم الحضارات التي مرت على السودان من قبل وآية ذلك أن منطقة مروي (البجراوية) تقع إلى شمالها، بينما تقع منطقة علوة على مرمى رمح إلى جنوبها. وقد امتازت المنطقة بقدرتها الفائقة على صهر البشر والثقافات، ووصل عرى الوئام والالفة بين مختلف العناصر. وحلفاية الملوك في ذلك الرمز والنموذج، إذ أنها تذخر بتنوع العناصر التي استقرت بها من داخل السودان وخارجه وتمازجها. ونظرة سريعة إلى أسماء مقابرها كافية لإيضاح هذه الظاهرة، حيث نجد ترب الصواردة والمغاربة وود أب دقن وعبد المحمود والدواليب والضيفلاب وغيرهم.
هذا وتنقسم الحلفاية إلى فريقين كبيرين: احدهما فريق (البلد) والآخر تسكنه بقية المجموعات ويسمى (فريق شوايقه ) وتأكد هذا الانقسام مع ظهور الأتراك الذين تعاون معهم الشايقية في إخماد الفتنة التي انتظمت المنطقة.
في أعقاب إحراق الجعليين إسماعيل باشا في شندي في عام 1822م. ومن ثم إحراق أهل الحلفاية للحامية التي خلفها الأتراك. فهرب كثير من أهل الحلفاية، وكافأ الأتراك الشايقية بمنحهم أراضي الحلفاية واستقر هؤلاء كجماعة في الجزء الشمالي الشرقي من المدينة في الفريق الذي ما زال يحمل اسمهم. أما فريق البلد الذي يضم بقية المجموعات السكانية، فهو أيضا مقسم بحسب كثافة هذه المجموعات ونلحظ في هذا المقام مجتمعات المغاربة، الهوارة ، الضيفلاب، الدواليب، الصواردة، الخوجلاب، الجعليين، العبدلاب، الشناقيط وهلم جرا. ولكننا نلحظ في نفس الوقت تمازجاً بعيد المدى وتشابكاً في الأرحام والأنساب بين مختلف هذه المجموعات وآية ذلك أن التزاوج بينهما أزال الحواجز وكاد يجعل من معظم سكان الحلفاية أبناء عمومة تصل بينهم وشائج الرحم والجوار بأكثر مما تصل بينهم وشائج الانتماء لهذا العنصر القبلي أو ذاك.
الحياة الاقتصادية:
وقوامها الزراعة والتجارة. فالحلفاية منطقة زراعية ويعمل كثير من أهلها بالزراعة النيلية في الجزائر والجروف على النيل، وبالزراعة المطرية إلى الشرق. ولأهمية السواقي والمراكب للمنطقة اجتذبت الحلفاية عدداً كبيراً من أهل الشمال من الدناقلة والجعليين والمحس لخبرتهم الطويلة في هذا المجال. ويذكرون أن أول من ادخل الشادوف أو النبرو في السودان هو الشيخ هلاوي جد أولاد هلاوي في أوائل العهد التركي، وهو جعفري قدم من مصر واستقر في الحلفاية. وقد سجل المزارعون هذا الحدث في أغانيهم. ومن زاوية أخرى كانت الحلفاية مركزاً تجارياً هاماً. وبالتالي فإن كثير من أهلها عمل بالتجارة. فكان للمغاربة نصيبهم الكبير في هذا المجال. كما كان للبديرية والشايقية وغيرهم. وقد كان أهل الحلفاية قطب الرحى في تجارة المحاصيل بالنيل الأبيض. وكانت معظم تجارة كردفان ودارفور في أيدي أبناء الحلفاية. ويذكرون أن أسواق الأبيض والنهود وبارا والفاشر وغيرها كانت تقوم في معظمها على جهدهم. وكان هذا دأب أهل الحلفاية منذ عهد الفونج حتى لقد عرفت بـ (حلفاية التجارة) وكان فيها سوق يدعى (سوق الشلاتيت) يتعامل فيه التجار مع كل الجهات من شندي وسنار ومصر وكردفان ودارفور وغيرها.
العمران:
كما أسلفنا، كان من المقرر أن يكون مقر مركز منطقة بحري حلفاية الملوك. إلا أن الحكومة الانجليزية أحجمت عن تنفيذ ذلك لان أهل الحلفاية لم يستسيغوا الفكرة خوفاً من تعرض أهلهم وأراضيهم للمشاكل التي يجرها قيام المركز. ومن ثم انتقل المركز إلى الخرطوم بحري. أ/ عثمان السيد جامعة النيلين