خراب سوبا (٢)
فرضيات ومآلات، وما تداولته الأقاويل عن خراب سوبا، ذلك الحدث التاريخي الشهير والفاصل بين عهدين ورغم شح الوثائق المعاصرة ، لكن هنالك أسباب متعددة أدت لإنهيار الممالك المسيحية وخراب سوبا سنورد أبرزها بالتفصيل، بعد أن تمكنا من أخذ لمحات من تاريخ الممالك المسيحية في الجزء السابق.
هل سيظل الوضع تحت السيطرة بعد إتفاقية البقط؟
كما ذكرنا آنفا.. أنه تم توقيع إتفاقية البقط بين المسلمين والنوبة عام ٦٥١م والتي من أهم بنودها إحلال السلم، وإنهاء الحصار، ووقف القتال.. ورغم ذلك لم تكن هنالك هدنة تامة بين الطرفين وبين الحين والآخر تندلع بينهم المناوشات وعلى سبيل المثال لا الحصر عندما غزا المسلمون النوبة عدة مرات بعد صلح عبدالله بن سعد بن أبي السرح في خلافة هشام بن عبد الملك، وأيضاً في ١١٧٢م عندما غزا شمس الدولة توران شاه شقيق صلاح الدين الأيوبي ولم يتجاوز أبريم، ثم مضى إليها جيش الملك الظاهر بيبرس في عام ١٢٧٥م.
إتصال البجة بالمهاجرين العرب واختلاطهم بالمسلمين :-
لم تتضمن معاهدة البقط منطقة البجة، ومنطقة البجة هي تلك المنطقة الواقعة الآن بين بئر شلاتين على البحر الأحمر، وجزيرة دِهْلك وباضع، أي مُصَوَّع، في إرتريا. وهم أمة بادية، وفي الحديث عن تاريخ تلك المنطقة وشعبها نجد أنهم عرفوا “بالبليميين” في عصور اليونان والرومان. وكانوا يركبون الجمال، يسافرون عليها، ويقاتلون من فوق ظهورها. وكانوا يحاربون المصريين أحيانًا. وكذلك فعلوا مع من جاء بعدهم ممن حكم مصر وخاصة البطالمة والرومان، وأخيرًا العرب. فلما جاء المسلمون كان أول من التقى بهم عبد الله بن سعد بن أبي السرح سنة ٣١ هجرية، ٦٥١ م، فرآهم في صعيد مصر بعد حربه مع النوبة، وسأل عنهم، فقيل له: إنهم لايقيمون في مقر واحد، وأنهم أهل بادية. فلم يهتم كثيرًا بأمرهم نسبة لأنهم لم يشكلوا خطراً على المسلمين.. وكانت أشهر مناطقهم هي عيذاب على البحر الأحمر تجاه جدة، ومنطقة العلاقي التي تعرف قديماً باسم أوكيتا وحيث تزخر بكم هائل من مناجم الذهب والزمرد، من ناحية أخرى كان البجة قد أغاروا على صعيد مصر حوالي عام ٧٢٥ م فصالحهم ابن الحباب وكتب لهم عقداً خاصاً، ولكن البجة عادوا لمهاجمة المسلمين وأغاروا على قوافلهم من جديد في منطقة أسوان وفي هذه المرة جرد عليهم الخليفة المأمون حملة بقيادة عبدالله بن الجهم سنة ٨٤١ م، انتهت بعهد جديد مع رئيسهم كنون بن عبد العزيز وتم إبرام عقد بينهم يختلف عن معاهدة البقط فبموجبه أصبحت بلاد البجة حتى مصوع جزءاً من الدولة الإسلامية.. بالتعقيب على تلك النقاط السابقة نلاحظ أن وجود البجة كعنصر مستقل قبل الفتح الإسلامي ووجود مناجم الذهب ساعد على تشكيل بيئة خصبة لتوافد العرب والمسلمين سواء كان لأغراض التجارة أو خلافه مما أفضى إلى امتزاج المسلمين بأهالي المنطقة وازدادت الروابط ثقة.
هل سيصمد عرش دنقلا أمام تدفق الهجرات العربية ؟! :-
ازداد تدفق القبائل العربية في تلك المنطقة بكثرة ، وكانت أولى محاولات بعض القبائل العربية كربيعة وبني جعد وبني عكرمة هي الاستيلاء على دنقلا عاصمة مملكة المقرة. وفي سنة ٧٦٧ هجرية، ١٣٦٥ م تحالف كل من بني الكنز وبني عكرمة وبني جعد للقضاء على ملك المقرة. وبالرغم من أن السلطان المملوكي أرسل جنوده لحماية ملك المقرة إلا أن الملك النوبي لم يشعر بالاطمئنان على نفسه وهو في دنقلا، ولذلك رحل إلى قلعة الدو، بعد رحيل ملك النوبة وابن أخيه الذي كان معارضًا له إلى قلعة الدوّ لم يذكر المؤرخون شيئًا عما حدث في دنقلا عاصمة النوبة على مدى قرون طويلة. وكان قد حاق بها الخراب من جراء تلك الاشتباكات، وأخلاها أهلها وبقي بنو جعد حولها. لكن تعتبر نقطة التحول الفارقة في التاريخ حين اخُتِير أمير نوبي مسلم لحكم المملكة وهو الأمير “عبدالله برشمو” بهذا تأسلمت دنقلا قبل قرن وأكثر من سقوط علوة.
مملكة علوة وتحالف الفونج والعبدلاب المزدوج الذي أسقطها :-
يتجلى لنا من وصف ابن سليم بإمكانيات علوة التي تتفوق على المقرة وهذا ما يوافقه الموقع الجغرافي، فإتساع رقعة علوة وهطول الأمطار فيها، وتوفر المراعي والزراعة المطرية يجعلها من الناحية البيئية مجالاً نشطاً وحيويا لحشود القبائل العربية المتدفقة من الشمال وخصوصاً بعد سقوط المقرة.. فأصبحت تلك المنطقة تضج وتعج بالقبائل العربية،ولكن طيلة هذه الفترة لم يستطيع العرب الهجوم على مملكة علوة بشكل مباشر، ولكنهم كانوا قد أقاموا في أراضيها واختلطوا بأهلها، وفي فترة التغلغل والتداخل اعتنق بعض السكان الأصليين الدين الإسلامي ولكن الملوك تمسكوا بالنصرانية.
أما في الحديث عن الحيثيات والخلفيات التى تؤرخ لسقوط علوة مازالت غامضة فنرى من بعض الإشارات العابرة لدى المؤرخين المحليين أن السلطة المركزية التي كانت في أيدي ملوك سوبا قد ضعفت فظهرت إمارات مستقلة أو شبه مستقلة ومتحاربة مع بعضها البعض وتغلغلات لجماعات من الرحالة العرب الذين استوطنوا أراضي المملكة. من ناحية أخرى نذكر جماعة الفونج الذين كان لهم دور في إسقاط سوبا كما ورد في المصادر والوثائق المحلية وفي الحديث عن الفونج وأصل الفونج نجد أنهم مجموعة انحدرت من أعالي النيل الأزرق، واستحوذت على الجزء الجنوبي من الجزيرة بيد أن نفوذهم امتد على العرب الذين سبق لهم السيطرة على مملكتي المقرة وعلوة في أعقاب هجرتهم في القرن الرابع عشر.
نهاية الحكاية :
تحالف كل من العبدلاب تلك الجماعة العربية التي تعد فرع من بطون قبيلة جهينة، والفونج لإسقاط سوبا حيث أشارت المصادر إلى أن عبدالله جماع زعيم العبدلاب قام بالدور الأكبر في هذا الحلف وعمل على تجميع كل القبائل العربية والإسلامية في المنطقة وعلى رأسها الفونج، وأما الفونج فقد كان دورهم عسكري وغالباً الإشتراك بقوة عسكرية أدت في نهاية الأمر إلى سقوط علوة وتخريب عاصمتها سوبا أشد الخراب.
تعقيبات لخلاصة الموضوع :-
على الرغم من أن نهاية هذه الحقبة من تاريخ السودان قريبة منا بشكل نسبي لكن مصادرها قليلة ومشوشة والعهد الذي سبقها في علوة المسيحية كان أشد غموضاً، وحتى في الحديث عن خراب سوبا وماتداولته الأقاويل وغيره من الروايات الشفاهية التي ينتابها الجدل تحتاج إلى الكثير من التقصي والتعقب حتى تتضح المعالم .. وعلى العموم في هذين الجزئين استطعنا تسليط الضوء على عهد الممالك المسيحية ونهايتها بخرابٍ صار مضربا للأمثال، فستدرك عزيزى القاريء أنه رغم دخول المسيحية إلى السودان بعد خمسة قرون من ميلادها وبيد تنوع المذاهب التي اعتنقتها الممالك ؛ لكنها صمدت لفترة طويلة (قرابة الألف عام) بإخلاص تام ينعكس لنا حين ذكر لنا أبو صالح الأرمني حوالي منتصف القرن الثالث عشر الميلادي أنها كانت نحو ٤٠٠ كنيسة، علاوة على ما شهدته مملكة علوة من عمران وتقدم اقتصادي الأمر الذي بدوره ساعد على تدفق الهجرات العربية بكثافة إليها وهنا نقصد جميع الهجرات من كل الجهات شرقية كانت أم شمالية، حيث ازدادات العلاقات ثقة وانصهر العرب مع أهل المنطقة كما تطورت العلاقات التجارية، رويدا رويداً بدأت تتوغل الجماعات العربية إلى الداخل وربما وكما أورد عدد من المؤرخين أن من غايات الحلف الذي أسقط علوة هي غاية تجارية أو ربما سياسية ودينية، وما انفك أصل الطرف الثاني من ذلك الحلف (الفونج) موضع خلاف إلى الآن، ومن أي مواطن دخلوا السودان وفي أي وقت دخلوا في حلف مع العبدلاب، ففقدان الحاسة الزمنية أحياناً قد يحدث ثغرة أو فجوة في التاريخ وفي نهاية المطاف قد دخل هذا التحالف وأحدث خراباً ودمارا على إثره ضاع الإرث الحضاري الذي لم يسبق له مثيل.