ورد فى كتاب (فتوح مصر و أخبارها) يحكي لنا عبد الحكم : أن الخليفة عثمان بن عفان، جعل أخاه فى الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح والياً على مصر، و عزل عمرو بن العاص الذى فتحها. و قد استكمل الوالي الجديد الفتوحات التى بدأها عمرو، و انتصر على أسطول الروم فى الموقعة المسماة «ذات الصواري» لكثرة صواري السفن التى اشتركت فيها. ثم أراد التوسُّع بدولة الإسلام، جنوباً، و هو ما يرويه ابن عبدالحكم، على النحو التالى:
ثم غزا عبدالله بن سعد الأساود، النوبة، سنة إحدى وثلاثين هجرية (652 ميلادية) قال يزيد بن حبيب: كان عبدالله عامل عثمان على مصر، فقاتلته النوبة، قال ابن لهيعة: اقتتلوا قتالاً شديداً، وأصيبت يومئذٍ عينُ معاوية بن حُديج، وأبى شمر بن أبرهة، وحَيْويل بن ناشرة. فيومئذ سُمُّوا رماة الحدق.
و قال المسلمون ما لهؤلاء شىء أحسن من الصلح! إن سَلَبَهُم لقليل، و إن نكايتهم لشديدة فهادنهم عبدالله بن سعد، إذ لم يطقهم ووضعوا أول شرط على ألا يقاتل المسلمون أهل النوبة ولا يقاتل أهلُ النوبة المسلمين وأن يتبادلوا الهدايا بقيمة متساوية فى كل سنة.
تناول عبد الحكم أحد المؤرخين الأوائل المعاهدة، و أورد نصين مختلفين للمعاهدة. الأول يُلزم النوبة بإرسال العبيد، مما يرمز إلى التبعية لمصر، والثاني يضيف التزامًا من المصريين أيضًا بإرسال البضائع من القمح والعدس للمقرة، وهذا من شأنه أن يضع البلدين على قدم المساواة هذه المعاهدة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الفتوحات العربية مما يؤكد قوة وبأس النوبيين.
ولكن هل كان النوبيون بحوجة للقمح والعدس ؟ فقد جاء على لسان بعض الكتاب و الرحالة العرب عن وفرة القمح و الشعير و اللحوم و غيره في بلاد النوبة في شك أن النيل يشكل مصدر رخاء ونعم علي هذه المنطقة.
بعض المراجع العربية الوسيطة ذكرت أن النوبيين نقضوا العهد و هاجموا الصعيد و المسلمين و قاموا بأعمال تخريبية و الإعتداء على أهلها و كانت هذه الأعمال العدائية بتدبير من الدولة البيزنطينية لمشاغلة المسلمين لإستعادة مدينة الإسكندرية ، وبعدها أعد المسلمون قوة كبيرة و دخلوا حتى مدينة دنقلا فتمت محاصرتها و أقيمت حولها المتاريس و المنجنيقات – و هي آلة حربية قديمة- و هدم المسلمون الكنيسة، فطلب الملك قليدروت الصلح و تم توقيع اتفاقية البقط مما يجعلنا نشكك إذا ما كانت هنالك معاهدة أو وثيقة صلح بالفعل.
نلاحظ أن في الآونة الأخيرة بدأ التشكيك في أن المسلمين لم يتعدوا أسوان و أن معارك النوبيين دارت في تلك المناطق الواقعة الآن داخل الحدود الجغرافية المصرية ، بأي حال من الأحوال لا يمكن تصديق هذا الأفتراء إلا إذا كانت أسوان نفسها تسمى دمقلة ( دنقلا ) في ذاك الزمان وإليكم بعض الذين أشاروا إلى إسم دمقلة :
* إبن الفقية أشار إلى النوبة أنها موجودة أعلى مصر و تسمى عاصمتها دمقلة و بها منزل الملك و يتفق معه الإدريسي في العاصمة.
* إبن طاهر المقدسي ذهب إلى أن عبد الله اين أب السرح سار حتى مدينة دمقلة.
يقول أحد الشعراء :
لم تـــــر عينــــي مثل يوم دمقلة
والخيل تعـــــدو والدروع مثقلـــــة
تري الحماة حولها مجدلــــــــــــــة
كأن أرواح الجميــــــع مهمـــــلة
وفي ختام مقالنا هذا نريد أن نوضح أن الإسلام لم يدخل على مناطق النوبيين بقوة السلاح أو من خلال غزوات عسكرية فقد كانت عملية تحول بطريقة بطيئة بدأت كثقافة يومية أو عادات و تقاليد بسبب الإحتكاك المباشر مع المسلمين و العرب قبل أن تكون عقيدة نابعة بسبب فكر أو معرفة عميقة.
فالأبحاث التي قام بها دي فيار في جهة مريس تؤكد وفود العنصر العربي في أزمان مبكرة وأن جاليات عربية قد استقرت فيها و وضح أثرها في القرن الثالث الهجري وقد عثر في بعض الأماكن بأرض مريس على كثير من الكتابات العربية و عثر على شواهد قبور تحمل أسماء عربية ومن المرجح ان العنصر العربي توافد إلى المنطقة النوبية عن طريق ممارسة التجارة فقد مارس العرب نشاطاً تجارياً في المنطقة حيث كانوا يجلبون من بلاد النوبة الذهب و الزمرد و بعض المعادن الثمينة من الصحراء الشرقية وبلاد البجا.
في العصر الأيوبي عارض النوبيون حكم صلاح الدين لحبهم الشديد للفاطميين خاصة بني الكتر الذين قاموا بنشر الدين الاسلامي بين النوبيين دارت حرب كبيرة في منطقة بين الصورين بالموسكي و في النهاية سلمت جيوش صلاح الدين إبريم إلى اقطاعى كبير يدعى إبراهيم الكردي ، ثم جاء بعدهم المماليك و وضعوا بدلاً عنه ملك كنزي يدعى نصر الدين بن شجاع .
أخيرًا، انتهت المعاهدة في منتصف القرن الرابع عشر، مع الإنهيار التام لمملكة المقرة.
Copyright secured by Digiprove © 2021 Ashraf Eltom