صفحات من تاريخ المهدية
٣
مواصلة لما سُرِد من حديث عن الثورة المهدية وبالتحديد في عام ١٨٨٢، وفي ذلك الوقت الذي رجع فيه المهدي إلى قدير، عمل المهدي على حث الدعاة لإثارة الناس على الحكومة لتشتيت جهودها وعلى سبيل المثال كاندلاع الثورات في الجزيرة التي تعتبر المورد الأساسي للغلال.
حركة عامر المكاشفي :-
أمرت الحكومة بالتنكيل بأقارب أعوان المهدي. وألقت القبض على عامر المكاشفي وحبسته في سنار ؛ وكان أخوه الشيخ أحمد المكاشفي أحد كبار الفقهاء بالجزيرة قد هاجر إلى قدير وبايع المهدي. وفي السجن كان يعاني عامر المكاشفي أشد العناء بنفس القسوة البالغة التي عرف بها الحكم العثماني، وظل يعاني عامر من العذاب حتى افتدى نفسه بالمال وخرج من السجن ممتلئاً بالغضب والحنق على الحكومة وأثار قبائل رفاعة الهوى على الحكومة وسار بهم إلى سنار ونجح في دخولها قبل أن ينسحب متأثراً بجراح أصابته فحاصر المدينة وقطع خط التلغراف إلى الخرطوم. حركت الحكومة قواتها من الكوة على النيل الأبيض بقيادة صالح ود الملك ونجحت في فك الحصار عن سنار. ثم عاد صالح ود الملك لمطاردته وهزمه ودفعه للفرار إلى قدير. ليرفع من معنويات جند الحكومة حتى هدتها هزيمة الشلالي.
حركة الشريف أحمد ود طه حركة محمد زين التكروري:-
ثار الشريف أحمد ود طه شرقي النيل الأزرق بين رفاعة وأبو حراز ؛ وأحرز انتصارين الأول على قوة من الباشبوزق والثاني على قوة من القلابات حتى سار إليه جقلر بك وقتله. ثم سار جقلر إلى محمد زين التكروري في أبو شوكة وقضى على حركته.
الثورة في مرحلة الهجوم:-
بعد أن انتصر المهدي في عدة حملات على الجيش الغازي قرر بعدها أن ينتقل مباشرة من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم حيث اتجه نظره إلى مدينة الأبيض كأكبر المدن في غرب السودان فبعث بالدعاة إلى القبائل يستنفرها وماهي إلا أشهر حتى ثارت قبائل الحمر، والبديرية، والحوازمة، والجوامعة، ومهدت ثورة القبائل والقضاء على أكثر الحاميات طريق الزحف إلى الأبيض.
في أغسطس ١٨٨٢ م بدأ الزحف بجيش قوامه عشرون ألفاً وانفصل منه قسم اتجه إلى الدلنج فاوقع بحاميتها، وأسر المبشرين النمساويين وعلى رأسهم الأب اهرولدر. أما القسم الآخر قد زحف إلى بارا بقيادة عبد الرحمن النجومي.
عسكر سائر الجيش بقيادة المهدي على بعد ستة أميال من الأبيض في أول سبتمبر، وضرب حصارا محكماً حولها. كان هذا من جانب المهدي وأتباعه ومن جانب آخر كان محمد سعيد باشا مدير كردفان قد قام بتحصين الأبيض بحماس شديد فبنى حلقتين من التحصينات: الأولى تحيط بكامل المدينة والثانية تحمي المباني الحكومية ومنازل الموظفين والمواطنين غير المشكوك في ولائهم للحكومة؛ وقد قام بإعدام رسل المهدي الذين دعوه للإيمان بالمهدية مما أثار غضب المهدي الذي أمر بالهجوم على المدينة في ٨ سبتمبر ١٨٨٢.
اندفع الأنصار الموعودون بالجنة والمشبعون بإيمان عميق بالمهدي ورسالته نحو المدينة يظنون النصر كسابقاتها بغير مبالاة بالرصاص الذي أمطرهم به المدافعون. سقط المهاجمون قتلى بالعشرات ولكنهم نجحوا في اختراق السور الخارجي وتقدموا لاقتحام السور الداخلي ذي التحصينات الأقوى وحيث استمات المدافعون في الدفاع عن بيوتهم وأسرهم ونجحوا في صد الأنصار، وكبدوهم خسائر بشرية كبيرة. وكانت تلك أول هزائم المهدية على الأطلاق فأعلن المهدي عن وقف القتال، وعسكر بأنصاره في منهل الجنزرة بالقرب من الأبيض.
كانت تلك المرة الأولى التي يرسل فيها المهدي جيشاً للقتال المباشر بدون استخدام الكمائن والمفاجئات التي خدمته كثيرا في السابق. ولكنه سرعان ما وعى الدرس وسحب قواته إلى مسافة أمنة حاصر منها المدينة وانتظر الجوع ليفتك بمن فيها.علاوة على هذا كون المهدي فرقة الجهادية وهم “حملة السلاح الناري” بقيادة حمدان أبو عنجة فكانت أول معركة يستعمل فيها السلاح الناري.
فشلت حملة أخرى من ٣٠٠٠ جندي أرسلت من الخرطوم لفك الحصار عن الأبيض وبارا بعد أن قضى عليها أنصار المهدي في الطريق. وفي غياب الأمل بالإمدادات كان دخول الأنصار المدينة مسألة وقت حيث تناقصت مؤنهم تدريجيا مع الأيام، وقد استسلمت بارا أولا في ٥ يناير ١٨٨٣ تلتها الأبيض في ١٧ يناير ١٨٨٣ بعد ١٧ شهراً فقط من معركة الجزيرة أبا.
بسقوط الأبيض واستحواذ المهدي على النصر للمرة الرابعة على التوالي نستطيع القول بأن الحكم العثماني لم يتبقى له الكثير فهو أشبه ما يكون في حالة من الاحتضار علاوة على وجود الثورة المهدية في السودان تأزمت الأوضاع في مصر بقيام الثورة العرابية التي على إثرها بدأ الاحتلال البريطاني الدخول في مصر شيئاً فشيئاً.