نستأنف اليوم ما جاء من أوصاف بوركهات لمشاهداته في بلاد النوبة وملاحظاته الشخصية وما وقر في وجدانه من هذه البلاد الطاهرة الأرض والبشر، وبعد أن استعرضنا شيئا من نباتات وحيوانات وطيور النوبة التي شاهدها بوركهارت، سيبدأ حديثنا اليوم بشيء عجيب؛ وهو الجعارين.
حيث من أكثر الأشياء الملفتة في بلاد النوبة كمكون محلي أصيل نجده منتشراً على الطبيعة، ومنحوتاً على المعابد والآثار النوبية القديمة؛ (الجعارين)، وهي نوع مميز من الخنافس، مختلفة الأشكال والأحجام مالا يحصى على الضفة الغربية الرملية، وكثيرا ما وجدنا آثار أقدامها تغطي الطريق الرملي على هذه الضفة تماما.
ويطلق النوبيون على الجعران اسم الكافر، وهم يخشون الخنافس لإعتقادهم أنها سامة، وأنها تنفث السم في كل طعام تمسه، ولونها في الغالب أسود، أما عن الحجم فأكبر مارأيته منها كان في حجم نصف الكروان، ولعل عبادة المصريين القدماء لهذا الحيوان نــشــأت فـي الــنوبــة أولاً، والجعران جدير بأن يتخذ رمزاً للخضوع للسماء والتسليم بأحكام القدر، إذ يستحيل على هذه الخنافس أن تذوق الماء، مع أنها تسكن تلال النيل الرملية، كما أن الطعام الذي تعيش عليه ضئيل تافه، ومع ذلك تراها لا تفتأ صعوداً على الرمال في همة لا تعرف الوهن.
وتوجد أسطورة نوبية قديمة عن حكاية الجعران والذي يسمى (ككندارة قور) ، والذي طلب الزواج من القمر، ولكن القمر لم تستطع إحراج الجعران ورفض الزواج به، فطلبت منه تنظيف الأرض من الأوساخ لتتم مراسم الزواج في بهاء نظيف، ومنذ ذلك الوقت وإلى يومنا الحالي نرى الجعارين تواصل الليل والنهار في تنظيف الأرض من فضلات الأبقار مهما كانت الظروف وكيفما كان الجو.
أما بالنسبة لحرفة الصيد، فليس لدى النوبيين عتاد من أي نوع لصيد السمك، اللهم إلا من سكن منهم مناطق الشلال الأول والدر والشلال الثاني، حيث يصاد السمك أحيانا بالشباك، ويبدو أن أكثر أنواع السمك انتشاراً هما النوعان اللذان يطلق عليهما الأهالي اسمي الدبس والمسلوق.
أما السكان، فينقسم سكان الإقليم الذي عبرته من أسوان للدر إلى قسمين: أولهما وادي الكنوز، ويمتد من أسوان إلى السبوع، وثانيهما وادي النوبة ويشمل كل الإقليم الواقع جنوبي السبوع حتى الحدود الشمالية لدنقلا، وسأفصل الكلام عن وادي النوبة وسكانه فيما بعد.
ويسكن وادي الكنوز عرب كنوز، والذين يزعمون أنهم قدموا من صحارى نجد، بالرغم من أنهم لا يتكلمون سوى النوبية، ويبدو أن المستعمرين الجدد ما لبثوا أن اختلطوا بالنوبيين المغلوبين على أمرهم، واتخذوا لغتهم، وما زالوا يتكلمونها، وليس في هذه اللغة أصوات عربية على الإطلاق، ويتكلمها الأهالي من أسوان شمالا حتى السبوع جنوبا، بل وفي كل قرية من شمالي أسوان حتى ادفو، ومن الحقائق التي تسترعي النظر أن الكنوز ليس في كلامهم غير اللغة النوبية، ولا يعرف العربية إلا القليل منهم من الذين زاروا مصر، وأما نسائهم فلا يعرفون العربية إطلاقاً ، أما العرب الآخرون المستوطنون في بلاد النوبة كالعليقات يحتفظون بلغتهم العربية الخالصة، ورجالهم يعرفون كلى اللغتين العربية والنوبية، أما نسائهم فلا يفقهن سوى العربية.
ويطلق المصريون على سكان وادي الكنوز والنوبة حتى دنقلا اسم البرابرة، لكن هذا اللفظ قلما يستعمله الوطنيون أنفسهم حين يتكلمون عن أمتهم، ولعل اللفظ مشتق من اسم إقليم بربر الواقع في اتجاه القوز التي ذكرها الرحالة بروس، ويعتبر أهل بربر أحيانا نوبيين.