ارتبطت ثورة اللواء الأبيض لدينا بأسمى معاني النضال الوطني منذ أن وعينا, وكان أبطالها قدوة للكثيرين و ما زالوا, فقد تشبعنا بتمجيد هذه الثورة في كل مراحل دراستنا و كان لها -و مازال- بروغباندا كبيرة في كل ضروب الإعلام, و هذا ديدن مؤرخينا في توثيقهم لتاريخنا القديم.
وازداد اعجابنا بـ(اللواء الأبيض) بعد المسلسل الرائع الذي بث العام 1992 وكان صراحة من أفضل الأعمال التلفزيونية إلى الآن.
لكن لفت نظري بعض النقاط في هذه الثورة منذ بدايتها, لذلك قمت بقراءة لهذه النقاط وللثوره من زاوية أخرى خالية من العواطف و الشحن الوطني حولها, و سننظر لها الآن هنا من منظار آخر أو نظرة بالعين الأخرى.
دائما مايربط المتحدثون عن أسباب هذه الثورة ( ثورة 1924) وبداياتها بالسياسة الإنجليزية والمظالم التي حصلت بها, لكن بنظرة أخرى, نجد أن هذه الثورة بداياتها كانت في العام 1920 عبر تكوين مجموعة من المتعلمين ( خريجي كلية غوردون أو الجامعات الأخرى) و الموظفين – أو ما يطلق عليهم الأفندية و هذا ظاهر من زيهم الذي يعتمر الطربوش- جمعية الاتحاد السوداني وكان هذا التكوين مباشرة بعد زيارة وفد الزعماء السودانيين لبريطانيا ( السيد علي الميرغني, السيد عبدالرحمن المهدي والشريف يوسف الهندي) و التي كانت هي ظاهرها تهنئة الملك جورج بانتصاره في الحرب العالميه الأولى و في باطنها مبايعة للتاج البريطاني ضد الحاكم المصري حيث كانت تدور ثورة في مصر تعرف ب (بثورة 1919) ضد الوجود والحكم البريطاني, و يجمع كل المؤرخين أن جمعية الإتحاد السوداني هي نواة جمعية اللواء الأبيض.
صراحة هنا نقطه تستحق التوقف قليلا و نعود لنقطة الأفندية التي ذكرت و هي زي الطربوش, و زي الطربوش كان يرمز في السودان للثقافة المصرية أو للانتماء المصري بعكس الجانب الإنجليزي الذي كان يأخذ بالزي الغربي المعتاد أو بالزي السوداني من هنا يتبدى لنا ظهور التأثير المصري لجمعية الإتحاد السوداني و أنها امتداد للحراك المصري ضد الإنجليز, كما أن مسمى ( الإتحاد) هو يعني اتحاد مصر و السودان .
صراحة لا أستطيع أن أقول أن هذا مجرد تأثر كما يقال, بل تبعية تامة أو انتماء لنفس الجهة , لأن ثورة 1919 في مصر كانت من ضمن مطالبها وحدة وادي النيل أو ربط حق تقرير المصير للسودان مع مصر و سميت (المسألة السودانية) بينما رفض الإنجليز هذا و ربطوا تقرير مصير السودان بخيار السودانيين و أطلقوا مسمى ( السودان للسودانيين), فواضح جدًا و بدون مجاملة أن جمعية الاتحاد السوداني هي الحراك المصري في السودان لدعم (المسألة السودانية) ضد المجموعة الأخرى التي تنادي بـ( السودان للسودانيين) وهم القيادات الطائفية, ويزيد من وضوح هذا الأمر أن مطالب جمعية الاتحاد السوداني مطابقة لمطالب المصريين مع ادخال المطالب السودانية الأخرى مع مطالبتهم الوحدة مع مصر أو تقرير المصير للسودان بواسطة مصر.
العام 1922 صدر تصريح من الإدارة البريطانية تم الاعتراف باستقلال مصر عن بريطانيا لكن تحت أربعة شروط:
1 – حماية المواصلات الامبراطورية فى مصر.
2- الدفاع عن مصر ضد أي اعتداء أجنبي.
3- حماية الأوروبيين و الأقليات فى مصر.
4- يظل الوضع في السودان كما هو عليه.
هذا التصريح أدى إلى انفراج نسبي في حالة الاحتقان السياسي في مصر و بدأ المصريون يفكرون فيما بعد التصريح, وفي هذا الجو قام أحد الضباط المصريين الصغار ( ضابط في الجيش المصري في السودان ومن أصول سودانيةه ) اسمه علي عبداللطيف وقد كان برتبة الملازم بمحاولة نشر مقال في جريدة ( حضارة السودان) بعنوان (مطالب الامة), و طبعًا لم يتم نشر المقال وتم محاكمة الضابط وتجريده من رتبته وتم سجنه لمدة عام.
وقد ذكر أحد رجال المخابرات وهو ج. م. ايوارت فى التقرير الذى وضعه فى أبريل 1925 حول الأحداث السياسية فى السودان أن المقال كان يطالب بانهاء الحكم الأجنبي و قيام حكومة سودانية للسودانيين, لكنني أشك في مصداقية ايوارت, لأن سيرة علي عبداللطيف كانت مع الموقف المصري, بالاضافة لانه ضابط مصري و كما سيتضح لاحقا أن كل اتجاهه كان مع الموقف المصري, كما أنه يقال أن علي عبداللطيف كان يتحدث بالدارجية المصرية وليس السودانية, لذلك بامكاني أن أقول أن إيوارت قد عكس في حديثه هذا رغبة بريطانيا واتجاهها ( والذي يناقضه علي عبداللطيف) فمن الواضح أن هذا رأي إيوارت ومصلحته وليس ماكتبه عبداللطيف.
بعد خروج علي عبداللطيف من السجن العام 1923 كان قد عصف التشرذم والتشظي بجمعية الاتحاد السوداني, فجزء منهم اتجه مع القوى الطائفية الموالية للإنجليز وجزء حصل به تباين في الآراء, لكن لا يمكن أن نفوت هذا التشظي بدون أن ننظر ماذا حدث في الجانب المصري؟
في مصر كان الشعب في حالة نشوة و فرح و استعداد للديمقراطية و ذلك بأقرار دستور عام 1923، و رفع لقب حاكم مصر من سلطان إلى ملك مصر فؤاد الأول، و أدخلت مصر إلى مرحلة ديمقراطية.
فمن الواضح جدا المصريين كانوا قد أحسوا بانتصارهم و بدأوا في الدخول في معترك الحياة الديمقراطية الجديد, أي بمعنى أدق, أن ثورة 1919 انتهت ( مؤقتا), أي أن حاضنة جمعية الإتحاد السوداني قد انتهت و أن مهمتهم انتهت, لذلك انتهت جمعية الإتحاد السوداني بانتهاء ثورة 1919 في مصر و تكوين البرلمان و دخول مصر مرحلة الديمقراطية و عودة سعد زغلول.