بلغنا من التاريخ اليوم السادس والعشرون من فبراير لسنة 1813م، يقطع المسافر وادي هور في نحو ثلاثة أرباع الساعة، ثم مرورا بقرية دندور بعد مسيرة ساعتين، ومازال الوادي على رقعة ضيقة تصلح للزراعة، لذلك فقد أقام النوبييون القدماء جسورا من الحجر تمتد نحو عشرين إلى ثلاثين ياردة في عرض النهر، أفادتهم هذه الجسور في كسر حدة التيار على طرفي النهر وعلى امتدادها، مما ساعدهم في انتزاع رقعة من مجرى النهر خلفها لا تغمرها المياه، و كثير من هذه الجسور التاريخية باق و يستخدمه نوبيي اليوم، إلا أن أجزاء منها متهدمة بفضل عوامل الزمن التي انتدت عليها لآلاف السنين.
من قرية دندور وصلنا وادي أبيض بعد ثلاث ساعات، ثم بعد مسير أربع ساعات ونصف أخرى وصلنا قرية ماريا، أو قرية مريم، ويطلق النوبييون اسم ماريا على مريم العذراء، و هو نفس مسماها في الإنجيل، حيث كانت الممالك النوبية تدين بالمسيحية في أواخر سنين مجدها، ونجد أن تأثير الديانة المسيحية مازال قائمًا إلى اليوم في بلاد النوبة في طقوسها و حياتها الاجتماعية، فعلى سبيل المثال يوجد يوم السبوع، وهو اليوم السابع من ميلاد الطفل، حيث تذهب به اسرته إلى شاطئ النيل، ومعهم الأطفال، والعجائز، وأطباق من العصيدة، فيقومون برمي سبع لقيمات في مياه النهر، ثم تقدم إحدى جدات الطفل أو أكبرهن سنا فتقوم بتعميده في الماء، مرددة الأدعية الإسلامية المعروفة و مبتدئة بالحمدلله رب العالمين.
ونرى أيضا صنعهم لمراكب خشبية صغيرة و إطلاقها في مياه النهر وانتظارهم لرؤيتها إلى أي مدى ستصل، في تشبيه أيضا لرحلة سيدنا موسى عليه السلام وهو رضيع، نرى في كل ذلك تشبع الثقافة النوبية بالديانات التي كانت سائدة فيها، وبالشخوص الدينية التاريخية التي عاشت بينهم في بلاد النوبة على امتداد رقعتها وأزمنتها.
وقد كانت السيدة مريم أم سيدنا المسيح عليه السلام مبجلة جدا حتى بعد تحول النوبيين إلى الإسلام، فمن أهازيجهم في الأفراح التي لا تخلو من الابتهالات الدينية في الدعاء بحياة زوجية ومباركة للعروسين، نجد من ضمنها أهزوجة “إلي ماري مارينتدود صلي على النبي”، والتي كانت في الأساس إحدى الأهازيج الدينية التي تردد في الاحتفالات والمناسبات الدينية قديما قبل دخول الاسلام، إلا أنه لم يتم التخلي عنها فاستخدمت أيضا في الاحتفالات الاجتماعية مع إضافة الصلاة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، و كلمة “إلى Elle” هنا للمنادى كأن تقول يا فلان، وفي كلمة مارينتدود فماري هي السيدة مريم العذراء عليها السلام، والنون نون النسبية، وتود يعني ابن أي ابن مريم، ومن تأدبهم ومحبتهم لسيدنا عيسى ابن مريم واحترامهم لمكانة المرأة العظيمة أيضا، نجد أن الفرد منهم ينادى باحترام ملحقا اسم الأم باسمه، فمثلا يقال منالنتود أو أمانينتود، أي ابن منال وابن أماني على غرار المحبوب المبجل ابن مريم عليه السلام.
Copyright secured by Digiprove © 2021 Ashraf Eltom