في الذكرى السابعة والخمسين لثورة أكتوبر واحد وعشرين، دعونا نعود بالذاكرة إلى الوراء قليلاً، عقب استقلال السودان بعامين لنسترجع ذكريات عهد أول حكم عسكري في السودان برئاسة الفريق إبراهيم عبود، ونتابع تفاصيل الحكاية بالشرح والتحليل ونتعمق في جذور الثورة التي أطاحت بعبود ونظامه الديكتاتوري وماهي الأحداث التي تلت الثورة ؟ فالاستيعاب الجيد للماضي والتاريخ يساعد على وضوح الرؤيا الحالية والمستقبلية، لنتابع..
السودان دولة مستقلة ذات سيادة :
لم يكن استقلال السودان على طبق من ذهب، بل جاء بعد جهود عديدة من مختلف الكيانات والأحزاب والتجمعات السياسية وغيرها، وجميعهم تكاتفوا (فالقضية كانت واحدة) وقد حدث بالفعل وخرج المستعمر واستقلت البلاد.. ولكن غياب الرؤية الحقيقة التي توضح كيفية قيادة الشعب، وكيفية حكم بلد مترامي الأطراف قد أثرت بشكل سلبي على الوضع أعقاب الاستقلال ففي الوقت الذي كانت تضج فيه الساحة السياسية السودانية بالأحزاب المتعددة وصراعاتها الأيدلوجية المتخبطة كان السودان يعاني من مشاكل كثيرة أبرزها الدستور، ومشكلة جنوب السودان، ومشكلة التنمية.. ففشل الأحزاب السياسية في إدارة البلاد إبان أول حكم مدني في السودان كان أمراً حتمياً يعكس رهين المشهد وتأرجحه في الخلافات قرابة الثلاثة أعوام آل الوضع الاقتصادي فيه إلى التردي بجانب الهشاشة السياسة حينها فقط بدأ حكم العسكر يلوح في الأفق وينذر ببداية أول حكم ديكتاتوري في البلاد ؛ ولكن لا يمكن الجزم والقول بأن الانقلابات العسكرية في السودان هي انقلابات بتخطيط العسكر.. فهنالك دائما من يوجد خلف الكواليس بمعنى المحرك الأساسي لهذه العملية لا يمكنه أن يكون نابعاً من صميم فكر العسكر، بل مَن في فشل في إدارة البلاد وجاء بالعسكر كوسيلة – فقط لا غير – لحكم البلاد!
العسكر نتاج وحصيلة لمشاكل الديمقراطيين :
فمن وأد الديمقراطية هم الديمقراطيون أنفسهم، فما فعله عبدالله خليل رئيس الوزراء آنذاك بتسليمه السلطة للعسكر لا يمكن تفسيره بغير ذلك، فهي محاولة أشبه بالغدر؛ فاتصالات خليل السرية مع كبار قادة الجيش لاستلام السلطة واتفاقه معهم على هذا، لحين أن ترتب الأحزاب موقفها وتنظم حالها، كان هذا الموقف من خليل قد عضّد خيانته للمسؤولية السياسة تجاه البلاد ؛ ولكن باءت أحلام خليل بالفشل حين افتتن عبود بالسلطة وتسنم راية الدكتاتورية فما فعله عبود خلال فترة حكمه فجر ثورة أكتوبر ٢١ كثورة شعبية عظيمة جدأ، ولكن لابد أن نتطرق لملامح حكم عبود ونستوقف عندها قليلا.
مقتطفات من حكم عبود :
كحال جميع الحكومات العسكرية التي تكبت الحريات وتضيق عمل الأحزاب والقوى السياسية كان ذلك ما قَفَل إليه حكم عبود فإن :
مرتع الدكتاتورية وتشاكس الأحزاب حدثان لا يجتمعان في وقت واحد.
ما كان لعبود سياسة واضحة تجاه الحكم في البلاد لا في الشمال ولا في الجنوب فما فعله عبود في الشمال لا يقل خطورة عن ما فعله في الجنوب، فحين قبوله باغراق مدينة حلفا لا يعتبر ذلك تضحية بل خيانة لا تغتفر! وتداعيات ذلك القرار الذي لازمه أمر بتهجير أهالي حلفا والذي بدوره قاد لأول الاحتجاجات الجماهيرية ضد هذا النظام.
من ناحية أخرى فقد تفجرت مشكلة جنوب السودان كالبركان الثائر فتلك المشكلة الجوهرية والمتوارثة من أنظمة سابقة لم يكن بوسع عبود أن يعمل على تهدئتها أو حلها، بل على العكس فقد كان عبود يسير عكس التيار يتضح لنا جلياً في تعامله العسكري الصارم وإصداره لقوانين مختلفة كالغاء عطلة الأحد وإغلاق الكنائس وغيرها من القرارات المتخبطة التي لا تخدم مصالح الفئة المحتجة ولا حتى مصالحه، ولكن لم يستمر الوضع طويلا على هذا الحال فالتململ وكثرة الصراعات والمشاكل تلهب في نفوس المواطنين بحتمية ضرورة التغير.
جامعة الخرطوم مربط الفرس في الثورة :
في تلك المرحلة الحرجة كان لابد أن يكون الوعي السياسي هو سيد الموقف، ولعل من عاصر تلك الأيام كان يستشعر ببوادر تغير جذري قادم في المستقبل؛ ولكن يبرز لنا دور جامعة الخرطوم في ثورة أكتوبر من بعد انقلاب عبود واستلامه السلطة فمقاومات الجامعة كانت دائماً ما تخرج في شكل مذكرات تطالب بالديمقراطية ولكن لم يكترث لها عبود كثيراً، وحينما بلغت قضية الجنوب أوج قمتها في الصراع والمشاكل نستطيع القول بأن عبود وقتها أحس بالخطر فكونها كقضية أمنية وقومية يمكن أن تهدد منصبه فعقدت على أعقاب تلك الأحداث ندوة لمناقشة قضية الجنوب شاركت فيها قيادات سياسية ومن أبرزهم حسن الترابي كان حينها عميدا لكلية القانون بجامعة الخرطوم فذكر بلسانه :
حل المشكلة يكمن في زوال العسكر ذاك النظام الاستبدادي الذي يحتكر السلطة.
تلك الجملة القصيرة قد أثرت على الموقف تأثيرا كبيرا وسرعان ما بدأ الجميع في التنديد بحكم العسكر، وكأنما رسخ الترابي في أذهان الجميع أن لا مكان للعسكر في السلطة بأي طريقة، وبالفعل استجاب الشارع لهذا الحراك الذي على إثره بدأ النظام في التضيق على الحريات أكثر فأكثر ولكن زاد ذلك من تفاقم الوضع وتفشيه يتضح لنا في عقد اتحاد الطلاب لندوة يوم ٢١ أكتوبر كانت بمثابة تحديا وشرارة لبداية عهد جديد .
القرشي أيقونة الثورة :
كان القرشي الضحية الأولى التي قدمتها الثورة حتى تتوج بشعار النجاح، رغم أنه لم يكن له أي انتماء سياسي كما روي عنه بعض الناس، لكن لقى مصرعه وأصابته رصاصة الشرطة في مقدمة رأسه وكان ذلك عقب اقتحام الشرطة لندوة ٢١ ولكن دعونا نستوقف هنا قليلاً في مقتل القرشي وسنجد سؤالاً يطرح نفسه “هل مقتل القرشي فجر ثورة أم أن الثورة كانت آتية لامحالة؟” لربما يكون الجواب أن الثورة آتية لامحالة فإذا لم يقتل قرشي سيقتل غيره وسيسقط آخرين(الحكم العسكري يسكتُ من يتفوه بالحرية والعدالة بصوت البندقية) فالبتعقيب على لب الثورة نجد أن الثقل الجماهيري تجاه القضية قد أدى إلى تكوين ثوري مكتمل الأركان ذا مطالب واضحة وخصوصا بعد مقتل القرشي الذي ألهب نيران الثورة فمن اللحظة التي تحول فيها تشييع جثمان القرشي إلى موكب ضخم ما إن تتالت وانهالت الجماهير إلى الشوراع في جميع أنحاء البلاد إلى حين تنحي عبود من السلطة، كانت تلك الفترة وهج الثورة وراح فيها عشرات من الشهداء والكثير من الجرحى فإن :
الثورات الحقيقية لا تخلو من الدماء.
تعقيبات وهوامش :
نرى أن ثورة أكتوبر ٢١ في جوهرها هي ثورة عفوية شعبية تطالب بالديمقراطية العادلة قد رسخت مفاهيم لاتزال إلى يومنا هذا موجودة في أذهان العامة أهم تلك المفاهيم وأولها الصراع بين المدنيين والعسكر سيظل صراع أزلي. وثانيها أن الثورات تقوم بها الجماهير مناشدة بحكم ديمقراطي وعلى إثرها يضحي فيها الكثيرين بأنفسهم. وثالث المفاهيم لربما يكون قصر الفترات الديمقراطية عموماً شكل لنا غمامة جعلتنا نحكم على الديمقراطية بالفشل والفوضى، وجذّر مفهوم الأحزاب لا يعول عليها.
العِبرة وما يستفاد من مجمل الثورات :
لعل الحديث عن ثورة أكتوبر يجرّنا للحديث عن ثورة أبريل وصولاً لثورة ديسمبر، فهنالك تشابه إلى حد ما فيما بينهم، ولعلي أشير إلى ما ذكرته في مقدمة المقال إلى أن العسكر نتاج وحصيلة لمشاكل الديمقراطيين، فمثلا الفريق إبراهيم عبود أتى به حزب الأمة، والرئيس جعفر نميري جاء به الشيوعيين، وأما المخلوع عمر البشير قدمه الإسلاميون للسلطة،ولكن انقلب السحر على الساحر فأغرتهم كراسي الحكم فالسلطة تعمي البصر، و رويدا رويدا استشري الفساد وتوغلت الديكتاتورية جيدا ليعلن الشعب عن ثورة تطالب باقتلاع النظام، وحتى هذه الثورة نستطيع أن نقسم مراحل نجاحها لمرحلتين :
– المرحلة الأولى والأساسية بإسقاط النظام.
-المرحلة الثانية والمتمة بإرساء قواعد الديمقراطية التي تضمن استمرارية حكم يؤسس سبل العيش المطلوبة وجميع الحريات وغيرها من المطالبات.
نضالات الاستقلال شبيهة بكفاحات الثورات حيث يكون المطلب واحد ألا وهو إزاحة ذلك النظام؛ ولكن المشكلة دائما تعقب تلك الازاحة فالأمر أشبه بمجموعة الأسود التي تطارد الضحية أو الفريسة للحصول على الطعام وقتها تكون الأسود متكاتفة ولكن بعد القض عليها يندلع الصراع بينهم ويتهافت كل واحد منهم للحصول على أكبر حصة فينسون أنهم تعاونوا مع بعضهم البعض للحصول على ما يريدون! نفس تلك القصة شبيهة بما حدث بعد الاستقلال وبعد كل ثورة مرت على البلاد.
خلاصة الحكاية نجد أن ثوراتنا تقف عند مرحلة النجاح الأولى، ولكن ما إن تبدأ المرحلة الثانية في العمل حتى يظهر العسكر في السلطة من جديد فهل هذا سيكون مآل ثورة ديسمبر الحالية أم للقصة بقية؟!.
1 تعليق