في بلد متهالك يئن تحت وطأة الحروب وجحيم العنصرية حيث تحولت الأحلام إلى رماد وسط جحيم لا يهدأ، يتعمق كردفاني في وصف الواقع الإجتماعي والسياسي لهذا البلد من خلال امرأتين تجسدان سودانيين منفصلين.
تدور أحداث فيلم “وداعاً جوليا” للمخرج “محمد كردفاني” مابين عامي “2005” و “2010” في الفترة ما بعد إنتهاء الحرب الأهلية وقبل انفصال جنوب السودان.
ويتتبع الفيلم العلاقة غير المتكافئة بين امرأتين من ديانتين وخلفيتين إجتماعيتين مختلفتين تتشابك مصائرهما بسبب سر مأساوي يلقي بظلاله عليها. مُنى “إيمان يوسف” امرأة شمالية مترفة تعيش مع زوجها أكرم “نزار جمعة” في أحد احياء الخرطوم الراقية، وعلى الجانب الآخر من الحي الراقي في العشوائيات تعيش جوليا “سيران رياك” وأسرتها الصغيرة المكونة من زوجها “سانتينو” وإبنهما “دانييل”.
وبسبب حدث غير متوقع تنقلب حياة المرأتين رأساً على عقب.
تتعقب ” مُنى” “جوليا” سراً، مثقلة بمشاعر الذنب تجاه ماتسببت به لعائلة “جوليا”.وفي الوقت نفسه تكافح “جوليا” والتي لاتعلم شيئاً عن مصير زوجها المختفي، للعثور على مصدر دخل لإعالة إبنها. بدافع الشفقة والشعور بالذنب ورغبة في التعويض عما تسببت به، تقوم ” مُنى” بتوظيف “جوليا” للعمل كخادمة في منزلها، بل وتمنحها هي وإبنها مكاناً للعيش فيه تحت سقف منزلها.
لا تخبر “مُنى” “جوليا” بالحقيقة، بل تتطوّر صداقة بين المرأتين تتجاوز ما يفصل بين عالميهما وما ينتميان إليه، طبقياً ودينياً وعرقياً.
ف”مُنى” المكبلة في علاقة زوجية رتيبة فقدت الشغف منذ سنوات طويلة يحكمها الروتين الممل والرضوخ للأعراف والعادات الإجتماعية تبحث عن السلوى والمواساة في شخصية “جوليا”، شخصية طموحة متمردة مكافحة تسعى جاهدة لتأمين مستقبل أسرتها.
“مُنى” حرمت من شغفها بالغناء، شغف ظل يطاردها كظل خفي يتسلل الى حياتها الرتيبه كل حين ليثير في قلبها الحنين إلى أيام كانت فيها حره في التعبير عن نفسها وصوتها، قبل أن تسيطر عليها قيود الحياة.
هذه الصداقة بين المرأتين والتى بدأت كنوع من التوبة ومحاولة البحث عن الخلاص تستمر لسنين طويلة، سنين من محاولات “مُنى” للتستر على فعلتها ومداراة كذبتها، كذبة ظلت تتآكلها بإستمرار رغم كل محاولاتها للتعويض عما قامت به.
مع مرور الوقت أصبحت هذه الشبكة من الأكاذيب، والتي أمعنت “مُنى” في نسجها للهروب من قمع زوجها، أصبحت جزءاً من حياتها، حتى اضحى الكذب بمثابة غريزة قسرية وأسلوب حياة أنتهجته لتتمكن من العيش في كنف زوج مسيطر وغيور. فعلاقة “مُنى” و”أكرم” أعتراها الفتور منذ سنين طويلة، فتور ظنا بأن إنجاب طفل قد يكون كفيلاً بتغييره.
يرمز “كردفاني” لهذه العلاقة المتهالكة من خلال ماء يتسرب ببطء من سقف منزل الزوجين، شرخ ظلا يتعاملان معه بلامبالاة قد تعصف بتلك العلاقة.
العنصرية والطبقية: ممارسات صامتة ولكن مؤلمة
العلاقات الإنسانية في هذا الفيلم متشابكة ومعقدة، علاقة أسرة ” مُنى” مع أسرة “جوليا” تجسد علاقة إنسان الشمال مع إنسان الجنوب.
يمعن “أكرم” في مسح يديه كلما لامس او داعب الصبي “دانييل”، كما تفعل زوجته “مُنى” بفصل الأواني التي يتناولون عليها الطعام. تفاصيل صغيرة مليئة بالملاحظات الدقيقة التي تعكس عنصرية إنسان الشمال تجاه جاره الجنوبي.
فالتناقض هنا مابين شخصيتي “أكرم” و” مُنى” هو إنعكاس لتناقض المجتمع الذي يعيشان فيه مابين شخصية عنيفة مستبدة تمارس عنصريتها على الملأ ومابين شخصية تخفى عنصريتها خلف قناع التسامح والتعايش وهي لاتقبل حتى أن تشاركهم نفس آنية الطعام. تناقض أفرزه واقع إجتماعي وسياسي تعيشه البلاد بسبب إفرازات سياسيات إستعمارية قديمة.
مع الوقت يزداد تعلق “أكرم” بالصبي “دانييل” ويزداد القلق الذي يخلقه بداخله مع إزدياد الصداقة والدفء الذي ينشأ بين “مُنى” و”جوليا” رغم هشاشة كل شئ.
ومن خلال هذه الشبكة الدقيقة من المشاعر الإنسانية المتناقضة، التي تتأرجح مابين الكذب وحسن النية، تتعمق العلاقة بين الأسرتين، كلاً منهم يبحث عن الملاذ والرفقة في الآخر. “مُنى” و”أكرم” يبحثان عن الصحبة و يختبران شعور الابوة الحذر تجاه “دانييل”، شعور أوجده فشلهما في إنجاب طفل من صلبهما. و”جوليا” تبحث عن الأمان النفسي والمالي في كنف الأسرة الشمالية.
الرمزية السينمائية: الصورة كأداة للكشف عن الأبعاد الإنسانية
يستخدم “كردفاني” رمزيات الصورة واللقطات الثابتة ليجعلنا نتعمق في شخصياته ونغوص في الطبقات المعقدة لتفاصيل هذا النموذج المصغر والذي يرمز إلى بلدين كانا فيما مضى وطناً واحداً.
فمن خلال تركيزه على نسيج هذه الأسرة المصغرة، يلقي “كردفاني” الضوء على البيئة الأوسع التي تجري فيها الأحداث. وينسج أفكاراً حول العنصرية، الطبقية، وبعض الإفرازات السياسية لتلك الفترة، من خلال نص آسر يتعامل بحساسية مع السياق السياسي، دون أن يطقى على قصته الأساسية.
مع تفضيل واضح للشخصيات الأنثوية باعتبارهن صانعات سلام، تتجلى قدرتهن على تجاوز دائرة الصراع والقتال التي يخوضها الذكور. وبإعتبارهن رمز للأمل والتسامح.
امرأتنا تكافحان لتحقيق ذاتيهما وسط مجتمع ذكوري لايسمح لهما بتحقيق طموحاتهما، ويسعى لتهميشهما. فتجد كل واحدة منهما نفسها محاصرة بهذه القيود التي فرضت عليها، لتجبر على مواجهة صراع دائم بين رغبتها في الإستقلال وتحقيق الذات، وبين تلك القيود الجبرية التي تحد من خياراتها. والنتيجة الحتمية لهذا الصراع هي الفناء الفردي أو الأختناق.
تم عرض فيلم “وداعاً جوليا” في مهرجان كان السينمائي ضمن مسابقة “نظرة ما” ليكون بذلك أول فيلم سوداني يتم عرضه في المهرجان. حيث فاز بجائزة “الحرية” وقد أستقبل الفيلم بحفاوة كبيرة وقوبل بموجة من التصفيق والبكاء.
حصد الفيلم الكثير من الجوائز والإشادات من عدة مهرجانات عربية وعالمية.