عمر الفاروق عبدالله يوسف
شهد السودان ثورة عظيمة فقد من أجلها أرواح غالية ودفع خلالها اثمان باهظة.
خرج الناس الى الشوارع وهم يعلمون أن ما يقدمون عليه له ما له وعليه ما عليه، حتى وإن كانت انفسهم هي الثمن، وما أغلى من النفس شيئا، ولكن كانوا يعلمون أيضا أن ذلك الثمن تقابله حياة كريمة وعزة وشموخ ستبقى الى ابد الآبدين، وحرية وسلام وعدالة كما كانوا يهتفون.
كانت تلك أمانيهم التي خرجوا من أجلها، وهم يعلمون أنهم إن عادوا الى ديارهم منتصرين عادت لهم الحياة التي يطلبون، وسيكونون فخورين بجلب الحرية لهم و لوطنهم بعد ان طال نضالهم، وإن ماتوا في سبيل ذلك يكفيهم فخرا وعزة انهم جلبوها لغيرهم وهم فقط من دفعوا ثمنها.
جاء سيناريو ما بعد الثورة ولن أقول ما بعد انتصار الثورة لأن النصر كامله لم يأتي بعد، سيناريو مخيف جدا واكثر ما جعله مخيفا هو تغير الوجوه و أنانية الكثيرين وتملق المتسلقين وجهل الجاهلين الذي أدى الى شتاتنا وعدم تقبلنا لبعضنا واحترام مختلف الآراء.
قبل الثورة وخلالها اتفق الجميع ممن يعانون ويلات الحكم واتحدوا على تغيير ذلك النظام الذي استبد وظلم وفجر، فكان للثورة جزء من نصرها وتحقيق هدفها الأول وهو تغيير النظام وذهاب تلك الوجوه العابسة الى مذبلة التاريخ.
بعد الثورة أصبح الناس أكثرهم سياسيون واقتصاديون ومحللون، فشغلنا انفسنا باختلاف آرائنا وهجوم بعضنا على بعض، وتمجيد من نحب وذم ونبذ من يخالفنا الرأي، وكأننا نحن اللصوص، سرقنا الوطن واختلفنا على قسمته.
التاريخ يعيد نفسه كل مرة، فالصراع التقليدي بين الأحزاب السياسية كان سببا رئيسياً في فشل الدولة السودانية من بعد استقلالها وما زال، رغم علم الجميع أن تلك النزاعات والخلافات لن تساهم إلا في مزيد من الفشل. بل والاستمرار عليه، فلا أحد منهم يملك من الوطنية إلا شعاراتها، ومن المصلحة إلا نفسه، ومن الغباء تكرار نفس المحاولات وانتظار نتائج مختلفة، فقد أصاب المواطن الملل فيما يحدث وهوس السلطة طغى على الوطنية، وعندما تدب الفوضى المكان لا تسألني عن الأوطان.
ما يدور الآن من صراعات شخصية ومهاترات يومية عبر وسائل التواصل الاجتماعي وخلافات يشهدها الشارع العام والمشهد السياسي، هي الأسباب الرئيسية في نتيجة اللاشيء التي نحن فيها الآن بعد مرور أكثر من عام على الثورة.
وحال الشعب المغلوب على امره وكأنه يقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: (قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) صدق الله العظيم.
فلم يختلف الحال كثيراً قبل الثورة وبعدها، خاصة وأنه لا توجد صورة واضحة الملامح لما هو قادم، ولا توجد ألوان زاهية تزين للمستقبل القريب صورته، فالصراعات والخلافات الكثيرة جعلت للمشهد لونا رماديا يشبه التراب في غبرته.
لسنا في منافسة ولا تحدي لمعرفة من الأفهم والأوعى والأجدر، الفترة الحالية لا تتحمل ذلك، تجاوزنا إختلاف الرأي المشروع وتحول الإختلاف إلى خلاف فأصبح كل من لا يوافقني الرأي هو العدو.
أتوقع أن السودان أكثر بلد به نشطاء سياسيون أو من يتحدثون عن السياسة بشكل يومي، يملؤون الأسافير ضجيجاً والمحصلة صفر كبير والنتيجة تعصبُ للرأي وخلافات و إساءات وتحديات شخصية لا يستفيد منها الوطن ولا المواطن شيئ غير الفتنة ومزيدا من الجهل الذي بلغ النصاب في انتشاره، فلكل منهم أتباعه ومن يقفون حوله ويدافعون عنه.
خرجنا من عهد الإنقاذ محملين بالكره والغل والعنصرية والتقليل من الاخر، لندخل فى دوامة لا نعلم كيف ومتى الخروج منها.
خذلنا الشهداء بجهلنا واختلافنا فصرنا أعداء انفسنا قبل أن نكون أعداء لوطننا، ضيعنا أمانتهم ولم نوفي بوعدنا لهم و ضللنا الطريق الذي ساروا فيه وأصبح لكل منا طريقه الوعر الذي يمشي فيه حافياَ.
إن لم يأتي السودان أولاً فلن يكون للثورة نصر وستبقى الهتافات مجرد شعارات خدمت مصالح شخصية، وستمر علينا ثلاثون عاماَ أخرى ونحن في دائرة الخلافات والجهل والفساد.
واجب الأوطان داعينا ولكن هذه المرة دعوة حقيقية لنبذ كل أنواع العصبية في الرأي وتوحيد الكلمة وتسخير الجهود في بناء وطن واحد يسع الجميع.
الى لقاء …
20 تعليقات