قديماً كان (البطان) وما يُعرف بجلد السوط وشيل العريس والعرضة والصقرية، والزغاريد عند الفتيات والنساء .. والسيرة على أنغام الطرب البلدي والطبل واغاني البنات، هذه وغيرها كانت هي أقصى وأقوى أنواع المجاملات في المناسبات من زواج وخطوبة وعقد قران، وتفاصيل أفراح أخرى يمكن أن تكون غاية المُنى عند أي عريس أو صاحب مناسبة، وغاية الرضا والقبول، ومن فعل تلك كلها أو احداها فقد أبلغ في الثناء والعطاء لصاحب المناسبة، فيما أصبح يعرف لاحقاً بلغة الفنانين وبتاعين الساونات بالـ (جملون)، وهي لغة (الرندوك) التي يستخدمها أصحاب الساونات و (راسطات الحفلات) ..
بيد أن البطان وجلد السوط وكل هذه الفراسة تبدلت متسارعة رفقة التكنولوجيا والانسان المتبدل وفقا لها، تبدلت الى بذخ ومجاملات و(شوفونية) من نوع آخر، كانت في الواقع موجودة قديماً إلا أنها لم تكن بالشكل المزعج والمقزز الذي نراه اليوم.
(النُقطة) أو ظاهرة رمي الأموال على المُغنيات وكذلك المُغنين على حد السواء، إلا أنها تزيد عند المغنيات أو مايعرف بلغة الشارع (القونات).
الفيديوهات التى نشاهدها عبر وسائل التواصل الاجتماعي تُدمي القلب وتُبكي العين، وينفطر لها الفؤاد.
ما بين اقدام (القونات) تجد تلك الملايين تُرمى ثم تُداس بالأقدام، أقدام السكارى و العرابدة والمُنطحين والجهلاء، بهذه النعمة التي يفتقر إليها مريض يموت أنيناً أمام المستشفيات، و جائع لايجد قوت يومه يفترش الأرض ويلتحف السماء، و يتامى تتلقفهم كلاب (السكك)، ومتعففات يبقى شرفهن أعف من جوع يقتلهم، واليهم الجموع تترى لسد الرمق، وتأبى العذراء إلا أن يفض الخاتم إلا بحقه، وفي ذات اللحظة يرمي ذاك السفيه تلك الملايين بين أقدام تلك التي (تجعر) فتوقظ النيام وتزعج (الموتى)، وتصيح الكلاب منزعجة من صوتها الذي يسمع فينسى، و تنهق الحمير فتطرب لها الشياطين أكثر من طربها بتلك المتسلقة على أبواب الفن ..
الفن ليس اخر مآلات الأسف التي انتهى إليها حال الكثير من الأشياء في السودان .. لكنه بلا شك هو الأكثر إيلاماً، لأن الفن كان مخرجاً على الدوام من مآزق الألم والأسف والحزن الكئيب والنبيل على حد السواء، كان الفن ملجأ الحيارى من غدر الزمان وطريق النور لمن التهمهم ظلام الهم ..
دولة تعيش أكبر التناقضات بين طبقة تعيش أو لا تعيش، وتبقى تصارع المجهول تحت الثرى، وتلك تبقى في الثريا تنعم بما اكتسبته ايديها من صلاح أو (فساد) لا نرميهم بسوء، ولكن الفساد قطعاً ما يفعلونه بتلك الأموال التي عنها (سيُسألون).. فلا تزول قدماً عبد يوم القيامة حتى يٌسأل عن أربع ,, أحدها ( ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، فليقل يومها هؤلاء النطيحة أنهم أنفقوها على القونات !!
يموت الناس جوعاً ومرضاً.. ألماً .. فقرا ً .. تعتصرهم الآهات.. ويكاد التعفف يقسمهم نصفين.. لا يدري أيهم يصارع كورونا أم الجوع، أم صفوف الخبز والوقود، أم المواصلات .!! أم يقتل نفسه ؟؟!! ففي كل الحالات هو مصروع لا محالة.. فرفقا بهؤلاء يا أشباه البشر .. رفقا باليتامى .. رفقا بالأرامل .. رفقا بمن يقتاتون فضلات طعامكم..
وتبقى وسط كل هذا وذاك الدولة متمثلة في وزارة الداخلية .. مسؤولة عما يحدث من (سفه) وتقويض للأخلاق والأدب,, فصاحب النقطة لا يرى في نقطته إلا ملاذا آمنا ليده التي تمتد لترمي، وتتحرش وقد لا يتحرش فتمتد يده برضا وابتسامة (المنقوطة).
وقفوهم .. وكفوا أيديهم عنهم وعن الفن وعن الأمن وعن أخلاق هذا الشعب الذي ماعاد يحتمل المزيد من الجراحات.
ماعاد فيه (فيه) ولا جوفه آهة من الآهات لم قلها
ماعاد فيه روح للقتال
ماعاد فيه صٌلبٌٌ للوقوف.. بل للجلوس
ماعاد شعبنا ذاك الشعب النضر .. المستبشر .. الأسمر المنتصر..
بات منهزماً مرمياً على الطرقات تتلقفه كل الهزائم..
ضعف ووهن .. وعليه نخشى أن تتلقفه أيدي الانهزام في كل شيء .. كل شيء حتى العفاف والهيبة والنخوة..
سلوا أنفسكم .. وسلوهم .. لماذا أصبحت هذه الأموال الطائلة في أيادي السفهاء..فأساؤوا استخدامها وجعلوها بين صدور النساء بدعوى الفن ؟!!
سلوا أنفسكم .. أهؤلاء منا ؟!!
سلوا أنفسكم وسلوهم .. كما سأل الطيب صالح ذات السؤال من أين أتى هؤلاء ؟؟!!
سلوهم .. قبل أن تُسألو..
سلوهم لماذا الأموال عندهم.. ولا ترموا بأمر (النصيب والقسمة) في جراب العطاء والسفه..
وتلك لعمري .. (قسمة ضيزى) ..
نلتقي …