يجيء هذا المقال بعد سلسلة طمس الهوية النوبية للحضارة الفرعونية نتيجة لما لمسناه من أهمية بالغة لبيان المعلومات التاريخية المتعلقة بالحقب التاريخية لمنطقة وادي النيل، خصوصا وأنها غير مضمنة في مناهجنا الدراسيه للأسف، وكذلك تعتبر معلومات عامة واجب على الجميع معرفتها؛ إلا أنها مغيبة عمداً عنا كمجتمع سوداني أصيل ومؤسس لحضارة وادي النيل بجميع حقبها ومسمياتها.
يقول هوميروس عن رقعة شمال ووسط السودان الحالي من بلاد وادي النيل أن الآلهة يجتمعون فيه في عيدهم السنوي من كل عام، أما ديودورس فيقول أن السودانيين هم أول الخلق على وجه البسيطة وأنهم أول من قدم القرابين للآلهة، وأنهم من علم المصريين الكتابة.
تدلنا هذه الشهادات التاريخية على أسبقية الوجود البشري وتكون الحضارة في الرقعة التي تعرف الآن بالسودان خصوصاً شماله ووسطه كما زاره ديودورس ووصفه، كما يتضح أيضا أن الحضارة تكونت أولا في جنوب وادي النيل “السودان” ثم انتقلت بعدها إلى دلتا النيل أو ما يعرف بمصر السفلى، ومنها انتقلت العلوم أيضا إلى أثينا ومنها إلى بقية العالم القديم، وذلك بشهادة أكبر مؤرخي الإغريق في زمانهم، ويعد هوميروس أحد أشهر الكتاب والشعراء الإغريق، كما أنه كتب الملحمتين الشهيرتين الإلياذة والأوديسا، كما أنه خلد ذكرى حرب طروادة التي كانت في 1250 ق.م كما نعرفها اليوم، أما ثيودورس 90-30 ق.م فقد كتب تاريخ العالم في موسوعته التي أسماها مكتبة التاريخ وجاءت في 40 مجلداً.
أما عن أقدم موجود بشرى مسجل لإنسان وادي النيل فهو ما يعرف بإنسان سنجة الأول، أقدم هيكل بشري في وادي النيل.
وهو إنسان عاش في العصر الحجري البروستويني قبل أكثر من 160,000 سنة في سنجة وسط السودان، وهو يتزامن مع إنسان بكين، ويوجد هيكله حالياً في المتحف البريطاني، وتعود قصة العثور عليه إلى عام 1924م، إبان الإستعمار الإنجليزي للسودان، حيث فوجئ حاكم مقاطعة شمال الفونج في مدينة سنجة “المستر بوند” بوجود قبر قديم قرب منزله على شاطئ النيل الأزرق، وعند فحصه وإرسال العينات إلى إنجلترا جرت دراسة دقيقه عليه عرفته علميا بهيكل إنسان سنجة الأول.
أما عن أقدم بقايا مستوطنة بشرية في وادي النيل فقد عثر عليها فريق معهد علوم الآثار و الأعراق البشرية البولندي، في منطقة العفاص شمال السودان، وهي تعود إلى نحو 70,000 سنة، وقد ذكر تقرير لمجلة (Post horizons) المتخصصة في الإكتشافات الأثرية الهامة حول العالم؛ أن هذا الإكتشاف العظيم يبدي تعارضاً مع الإعتقاد الذي كان سائدا بأن تشييد البشر للهياكل الهندسية الدائمة لم يبداء إلا بعد النزوح الكبير من أفريقيا للأراضي الباردة في أوروبا وآسيا.
ويشكل الآن موقع العفاص الأثري بشمال السودان أول وأقدم موقع من نوعه في وادي النيل قاطبة تكتشف فيه آثار إنسانية تشمل هياكل بنايات بأحجام كبيرة، كما عثر في موقع العفاص أيضا على مجالات متنوعة للأنشطة تشمل ورشة كبيرة للأعمال الحجرية، ومساحة لحفظ أجزاء الحيوانات التي يتم صيدها.
ومن أهم الدلائل أيضا على أقدمية الوجود البشري في جنوب وادي النيل “السودان” وتقدمه الحضاري النقش الصخري الشهير والموجود في قرية سبو بشمال السودان.
والذي يعود إلى حقبة العصر الحجري الحديث بعمر يعود إلى 10,000 ق.م، وتظهر في النقش مجموعة من المراكب والمجاديف تحمل على متنها الركاب، وتمتاز تصميمات مراكب نقش سبو بتطورها النوعي والتصميمي مقارنة بتلك الحقبة، وهي دليل آخر أيضا على أسبقية أجدادنا ومعرفتهم بأسس وفنيات الهندسة التصميمية وأن هذه الجزئية من وادي النيل هي فعلا المهد الأول للحضارة الإنسانية فيه.
ونختم هذه الحلقة الأولى بحضارة نبتا بلايا، الموجودة أيضا في بلاد النوبة وتحديداً في الصحراء النوبية جنوب قرية أبوسمبل الأثرية ب 100كلم،
وتعود آثار الإستيطان البشري في منطقة نبتا بلايا إلى 13.000 ق.م ، مما يدلل على تطور العلوم الرياضية والفلكية لدى سكان هذه المنطقة في تاريخ مبكر جدا من عمر البشرية، وانتظرونا في المقال القادم لنكشف المزيد من البينات التاريخية والأثرية المثبتة لأقدمية الوجود البشري الحضاري في منطقة وادي النيل خصوصا جنوبها.