مملكة تقلي Taqali كانت دولة في جبال النوبة، في ما هو اليوم وسط السودان. و على النقيض من كردفان المجاورة، فإن المرتفعات و الهضاب كن دوماً في حالة رطبة ومناسبين للزراعة و الاستيطان الكثيف. تمركزت الدولة على نجد تقلي، أعلى جزء في التلال الواقعة شمال شرق المنطقة. التاريخ المبكر للمملكة تقلى غير واضح. و تقول المصادر الشفاهية أنها تأسست منذ عدة قرون كما هو الحال بالنسبة لمملكة سنار. ويتشكك العلماء في هذه الروايات ويعتقدون أن دولة تقلى لم تكن قائمة حتى أواخر القرن الثامن عشر بين 1750 و1780،وأن الحكام المبكرون على قائمة ملوك تقلي هي شخصيات شبه أسطورية.
أصل سكان تقلي
تتعدَّد الرِّوايات عن أصل سكان المنطقة، و قد أوردت جانيت جي إيوالد رواية هي – في واقع الأمر – أقرب إلى الأسطورة منها إلى الحقيقة. ذكرت جانيت أن أقوام من الفونج المسلمين يدعون (كونياب) سكنوا أبو دوم التي تبعد مسافة 10 أميال من جبل تقلي. و في أحد الأيام، و بينما كانوا يمارسون حرفة الصَّيد، جرحوا تيتلاً وطاردوه حتى عثروا على مساكن (لابوجاب) في قلب تقلي، وهم قوم عراة وغير مسلمين. وقد أُعجب (لابوجاب) بملابس (كونياب)، وطلب زعيم الأول من مجموعة الصيَّادين (المونياب) أن يستقروا في تقلي ليعلِّموهم زراعة القطن ونسج الملبوسات. و قد قبل (الكونياب) الدَّعوة على الرَّغم من أنَّهم ظلُّوا على اتِّصال مستمر مع ذويهم في أبو دوم؛ كما أنَّهم لم يتدخَّلوا في معتقدات (لابوجاب) الدِّينيَّة مثل تقديم الفتيات قرباناً لحيَّة في بئر لضمان الهطول المبكِّر للأمطار. و هناك قول أنَّهم ينتمون إلى قبيلة السقارنج: الرجل منها سقراناوي والمرأة سقرناويَّة.
من جانب آخر، تقول القصص الشَّعبيَّة إنَّه زهاء 400 عام مضى ،حطَّ فقير متجوِّل من الجعليين الموجودين على النِّيل قرب مصب نهر عطبرة، واستقر في هذه التِّلال، وبدأ في مزاولة النَّشاط الدِّيني الذي سرعان ما انقلب سياسيَّاً. وبهذه الطَّريقة، و بأسباب أخرى سنوردها في هذا البَّحث، أوغل نفسه في بلاط الحكم و أمسى يمارس السِّيادة و الرَّيادة في هذه المملكة العريقة التي اشتهرت في القرنين الثَّامن عشر و التَّاسع عشر في وسط السُّودان. و قد ذكر المؤرِّخون أنَّ تسعة عشر حفيداً تعاقبوا على حكم المملكة دونما انقطاع: من ابن هذا الشَّيخ الجَّعلي، جيلي أبو جريدة، حتَّى المك آدم النِّيل جيلي. و قد انتشر الإسلام في المنطقة بفضل هذا الفقيه، حيث تجد في كل قرية مسيد (4) الذي تمَّ تأسيسه بواسطة المسلمين الأوائل و مازال قائماً حتَّى يومنا هذا. توجد بالمنطقة أغلب الطُّرق الصُّوفيَّة، لكن معظمهم من تابعي الشَّريف يوسف الهندي.
هذه المملكة، التي امتدَّت من خور أبوحبل شمالاً حتَّى تلودي جنوباً، كانت ذات شأوٍ وشأنٍ عظيمين: وقد اعترفت بها قبائل العرب التي كانت تدخل المنطقة في كل فينة وأخرى. ولا غرو في أنَّها تحدَّت، بنجاح منقطع النَّظير، الحكومة التُّركيَّة-المصريَّة لسنين عدداً.
بتشجيع الهجرة و الاستيطان في تقلي في خلال السَّنوات الأولى من الحكم، استطاع هؤلاء الحكَّام الوافدون أن يغيِّروا ديانة أهل المنطقة، و أسلوب حياتهم و لاسيَّما أنَّهم قد أدخلوا ارتداء العمامة و قولة “اللَّه يطوِّل عمرك”. وبذا تحوَّل جزء من النُّوبة الذين كانوا يؤمنون بالآلهة المحليَّة، في هذه المنطقة، إلى مسلمين، وتركوا ما كان آباؤهم يعبدون من المعتقدات الأفريقيَّة. و نتيجة المصاهرة و التَّزاوج مع سكان المنطقة الأوائل ظهر خليط من المجموعة التي تقطن المنطقة. أمَّا سكان الكيجاكجة، جنوب-غرب تقلي، فيمثِّلون العنصر الصَّافي من سكان المنطقة الأصليين. كحال كل القبائل العربيَّة في السُّودان، تدَّعي العائلة المالكة أنَّهم ينتمون إلى الجعليين – نسبة لإبراهيم جعل. توجد، كذلك، بالمنطقة أحفاد الفونج، و أجناس من دارفور في غرب السُّودان، و العرب الذين يشملون: البديريَّة والجوامعة و كل فروع الكواهلة وكنانة.
و كأي نظام ملكي، فإنَّ نظام الحكم في هذه المملكة كان و راثيَّاً؛ و للمك مطلق الحريَّة في تصريف أمور البلاد و العباد، يعاونه في ذلك شخصين من أقربائه و الذي يُسمح لأحدهما، و هو الجُّندي، بمقابلة المك في أية ساعة من ساعات النَّهار أواللَّيل. وكل من عزم أن يقابل المك عليه أن يقابل الجُّندي أولاً، وهو كذلك المسؤول عن المكوكيَّة في جنوب المملكة: جزيتهم وهداياهم تُسلَّم للمك بواسطته. أمَّا المعاون الثَّاني فيسمَّى سكراوي، ولا يتمتَّع بقدرٍ كبيرٍ من الصَّلاحيات كتلك الممنوحة للجُّندي، لكنَّه هو المسؤول عن الجزء الشِّمالي والشَّرقي من المملكة. في بعض الأحيان يتم تعيين الوزير؛ وشاغل هذا المنصب يكون دائماً من مقرَّبي المك. كما أنَّ مهمة اختيار مك جديد، إذا كان هناك أكثر من مرشَّح واحد، تقع على عاتق الجُّندي.
بعد مرور ما يقارب أربعة قرون، أصبحت العائلة المالكة أرستقراطيَّاً لا يستطيع أحد أن يتطاول عليها، ولم يخل نظام الحكم من القسوة المفرطة. وقد قيل إنَّ زبانية المك ناصر كانوا يلقون بالمعارضين السِّياسيين في دوكة حجريَّة تحتوي على زيت ساخن بعد ما تصل درجة الغليان وذلك بعد منتصف النَّهار، أي في وقت الهجيرة. ونتيجة لهذا الرُّعب، هرب كثيرون من رعايا المك إلى خارج المملكة، وقد سكن أفراد منهم في مدينة الدَّلنج في ريفي شمال الجِّبال.