يملك السودان اليوم ثروة قومية عظيمة قوامها حوالي المئة صورة حائط، سميت خطأ بالفريسكو ، حيث أن الفريسكو هو رسم بالألوان على طلاء الحائط المبتل،أما صور الحائط رسم الألوان على حائط جاف وإلى هذا النوع الأخير تنتمي جميع صور الحائط التي وجدت في كنائس النوبة المسيحية و على رأسها كتدرائية فرص و كنيسة عبد القادر و كنيسة منارتي.
ولوحات فرص ذات مضمون مختلف جداً، فبعضها ذو مضمون ديني يمثل صوراً من قصص التوراة والأناجيل والبعض الآخر تاريخي المضمون؛ كصور الملوك والملكات والأساقفة وحتى الجنود وكبارهم، وهي بهذا تعكس صوراً من الحياة اليومية والعادات، بجانب أنها تصور ملابس الكهنوت والملوك والجنود في النوبة القديمة قبل اثني عشر قرناً.
دخلت المسيحية إلى السودان في القرن الخامس الميلادي، واُعتنقت أول الأمر من بعض الأهالي، الشئ الذي أرغم إمبراطور الروم وجستنيان بأن يرسل بعثة تبشيرية في حوالي عام 542 م، وقامت البعثة بتعميد ملوك النوبة (حسب الروايات التاريخة المنقولة) وانشاء أول كنيسة بالنوبة ،غير أن أقدم صور الحائط يرجع تاريخها إلى القرن السابع الميلادي، وهذا يدل علي أن الفن المسيحي بدأ في الظهور بعد مئتي عام من إنتشار المسيحية بالنوبة.
ومن العجيب أن يكون الفن المسيحي مستمداً جذوره من الفن البيزنطي الذي انتشر فيما بعد في كنائس روسيا واليونان، وهو بذلك يخرج عن القاعدة الحضارية العامة في النوبة القديمة (أي أنه فن وافد من ثقافة أخرى) حيث الفن المصري كان له ثأثير واضح في الكتابات والنقوش النوبية، ويعزو عالم الآثار البولوني ومكتشف صور فرص ميخالوفسكي طفرة الفن هذه الي سببين :
الأول: هو أن المسيحي القبطي كان في ذلك الحين فنا بدائياً وساذجاً. الأمر الذي لم يجد له وقعاً طيباً في نفوس النوبيين.
السبب الثاني: هو ارتباط مصر في ذلك الزمان بالإسلام والعرب جعل أهل المنطقة يبحثون عن منبع جديد للفن.
ومن المؤكد أن بعثة جستنيان التبشيرية قد صحبت معها بعض الفنانين البيزنطيين، ولاريب أنهم تركوا مدرسة فنية في أرض النوبة، غير أن البعثات الأثرية لم تجد صوراً يرجع عهدها إلى عهد تلك البعثة، ولعلها عفى عليها الزمن فتلاشت؛ لأن أقدم الصور رسمت في منتصف القرن السابع الميلادي أي بعد مائة عام من دخول بعثة جستنيان إلى النوبة جميع هذه الصور في إعتقادي قد رسمت بأيدي فنانين محليين على الرغم أن بعض علماء الآثار أخذوا يشككون في مقدرة الفنان النوبي، ويدعون بأن قطع فنية رائعة كهذه لابد وأن تكوم قد رُسمت بأيدي فنانين بيزنطيين استجلبوا من الخارج خصيصاً لهذا الغرض، غير أن ظواهر ومقومات هذا الفن دحضت آراءهم بشكل قاطع لعدة أسباب منطقية :
أولاً :نجد أن الفنان النوبي قد أخذ يلوّن وجوه الآلهة بلون أبيض جيري، وهذا إمتداد للفن المروي السوداني القديم وهو شئ لم يكن معروفا في بيزنطة.
ثانياً: تكبير رسم الشخص كلما كبرت مكانته الإجتماعية فمثلاً نجد في الصورة أعلاه العذراء وهي تحمل المسيح وهي أكبر حجماً من الملكة النوبية مارثا الواقفة بجوارها. وأن تكبير الشخص حسب مكانته الإجتماعية إنما هو إمتداد للفن المصري القديم الذي تأثر به النوبيون. مثلاً نجد تمثال الملك أكبر من تمثال الوزير الذي يقف بجانبه في المنحوتات الكوشية والمصرية، وهو شئ غير مقبول وغير معروف في بيزنطة .بينما نجد في الفن البيزنطي صور العذراء و رأسها محاط بهالة من الضوء، وهو أسلوب متبع حتى اليوم في الكنائس المتأثرة بالنمط البيزنطي.
ثالثاً: الفنان النوبي بدأ في إستعمال اللون الأخضر متأخراً قليلاً عن الفنان البيزنطي ،فبينما نجد أن الفنان البيزنطي يرسم لوحاته مستعملاً اللون الأخضر عند بداية القرن الثامن الميلادي؛ نرى أن الفنان النوبي قد بدأ في إستعمال اللون الاخضر في بداية القرن العاشر الميلادي، أي بعد مائتي عام من ظهور مايعرف بالفن الأخضر في بيزنطة، ولو كان الفنان مستجلباً من الخارج لرأينا تناسقاً زمنياً في الطابع الفني بين بيزنطة والنوبة.
رابعاً: بعض الصور تحمل شرحاً باللغة النوبية القديمة وأين للفنان المستجلب من الخارج أن يكتب بلغة أهل البلاد؟!
كل هذه الآراء تثبت بشكل قاطع أن صور الحائط النوبية رسمت على أيدي فنانيين محليين.
كانت فرص مدرسة في هذا الفن، ونحن الآن نجد في كنائس النوبة المختلفة تقليداً إقليمياً لفن فرص (ككنيسة بنقانارتي وكنائس دنقلا العجوز) كانت إشعاعاً ثقافياً لكل أرض النوبة.
بدأ الفن النوبي رحلته الفنية عبر القرون مستعملاً أربعة ألوان رئيسية ولوناً واحداً فرعياً وهي الأبيض والأحمر والأصفر والأسود ثم البني الذي هو خليط الأسود والأحمر (إنظر صور الجدران في مدافن الكرو ونوري الملكية)، وعلى الرغم من أن هذه الألوان كلها ماعدا الأبيض تنتمي إلى الألوان الغامقة؛ فقد وزعها الفنان النوبي بشكل منسق ولم يستعمل الألوان الزاهية كالأحمر القاني والبنفسجي والأزرق عكس الفنان البيزنطي.
إن طلاء الحائط في بيزنطة يشكل أرضية الصورة ويجبر الفنان بالرسم بألوان قاتمة ولكن الفنان النوبي شذ عن هذه القاعدة في بعض الصور جاعلاً أرضية الصورة قاتمة والصورة نفسها واضحة مثال على ذلك صورة الأسقف جورجيوس 1062_1097م حيث صوره الفنان جالساً على مقعد قاتم لابساً ثياباً بيضاً وعليه أشرطة سوداء وحمراء، وبذلك إستخدم الفنان إزدواجية الأرضية راسماً أرضية قاتمة وأخرى فاتحة.
أما في صورة الفتيان الثلاثة فقد استعمل الفنان لهيب النار كأرضية للصورة، ملوناً ملابس الملاك و وجوه الفتيان باللون الأبيض الواضح لتعميق التناقض اللوني بين الصورة و الأرضية، وتروي قصة هذه الصورة أن ثلاث فتيان هم شدرخ وميشا وعبدناغو رفضوا أن يركعوا للأصنام؛ فألقاهم الملك نبوخذ نصر ملك آشور في أتون ملتهب، فأرسل لهم الله ملاكه يزود عنهم النار. كذلك تعكس هذه الصورة ملابس النبلاء النوبيين في ذلك العهد، فهي تتكون من جلباب طويل مزركش ومئزرة قصيرة ثم صديري بلا أكمام وعليه عباءة ضخمة ذات روافد من الأمام.
نجد أن الفنان النوبي كان يرسم الأشياء كما يراها أي أنه كان يرسم واقعه ومجتمعه، و خير مثال على ذلك صورة الراهب فيرونيس؛ حيث نرى أن الفنان رسم كنيسة صغيرة بجواره ولقد إتضح أن هذه الكنيسة هي طبق الأصل من الكنائس النوبية الكبرى التي عثر عليها إبان حملة إنقاذ آثار النوبة، وتتكون الكنيسة من قبة كبيرة في الوسط تحيط بها أربع قباب صغار من كل جانب، ويتوج القبة الكبيرة صليب ضخم، وبداخل الكنيسة خمسة دهاليز، واحدة في الوسط واثنين على كل جانب، أما المدخل فيقع عادة على يمين الحائط الأمامي.
وقصة الراهب فيرونيس أنه كان راهباً مصرياً عاش في صحراء سينا ولما بليت ملابسة صلى وتضرع إلى الله أن يغطي عورته فأطال الله لحيته وشعرة حتى غطت كل جسمه.
والفن النوبي حتى أواخر القرن الثاني عشر ميلادي كان يتسم بالجمود وعدم الحركة، فهو يصور الإنسان واقفاً فاتحاً ما بين قدميه رافعاً كفيه إلى أعلى ( لاحظ صورة الراهب فيرونيس)
غير أننا نراه يتخلص من الجمود مع بداية القرن الثالث عشر مع لوحة الملاك ميخائيل محاولاً تصويره طائراً، مصوراً إياه في شكل يعرف بالكونترابوست.
الناظر للفن النوبي يجده متأثراً بالأيقونات الدينية البيزنطية و إرتكز على تقاليد الفن المصري والكوشي مع الفن البدائي الطوطمي، واستخدم الألوان من بيئته، معطياً صورة فريدة للفن المسيحي البيزنطي في المنطقة خلال ستة قرون، وقد اتسم هذا الفن بجمود الحركة، وثنائية المستويات، وازدواجية الأرضية، والتناقض اللوني، وتركيز التعبيرية في حركة العيون بشكل خاص. لكن يبقى موكداً أن هذا الفن قد خُلق على أيدي فنانين محليين استطاعوا أن يضاهوا بأعمالهم هذه عمالقة الفن البيزنطي.