انطلاقاً من قرية ساق الجمل، وبعد وجبة القراصة الآنف ذكرها، واصل بوركهارت رحلته متجها إلى منطقة الدر، والطريق إلى الدر مأمون لا خوف على المسافر فيه مادام بصحبة أحد الوطنيين، وفي الطريق إليها كان الأهالي ذوي فضول عجيب، لم يلحظه بوركهارت في غيرهم من قبل على حد قوله، حتى أنهم كانوا يمرون بالقرية عدوا في بعض الأحيان، تحاشيا لكثرة السؤال المصحوب بإصرار أهل هذه القرى على ضيافتهم فطوراً أو غداءً.
وفي وصف المسافات إلى الدر وصل الركب إلى وادي السيالة بعد ساعة ونصف، ثم إلى وادي عبدون بعد ساعتين ونصف، ثم إلى وادي دهميت بعد أربع ساعات، ولفظ “الوادي” يطلق هنا على كل قرية في هذه النواحي وصولا إلى دنقلا، ويشتمل الوادي على مجموعة من القرى مكونة من ثلاث إلى أربعة قرى في الغالب، ووادي دهميت على سبيل المثال يمتد نحو أربعة أميال على ضفة النيل، ويشتمل على أكثر من ستة قرى لكل منها اسمها الخاص، لذلك يقع العديد من السائحين الذين يدونون أسماء القرى في الخطاء لخلطهم أحيانا بين الاسم العام لمجموعة القرى، وبين كل اسم قرية منهم منفردة، ويمكنك أن تجد في غير القرى أيضا بيوتا مكونة من خمسة أو ستة بيوت مجتمعة عند منابت النخل، أو عند عرض الاودية المطلة عليه التي تسمح بالزراعة.
أما في دهميت التي وصلها آخرا، فقد وجد فيها داوود كاشف، ابن حسين كاشف، معسكرا في نفر من رجاله في أخصاص من البوص، مرتديا الجلباب الأبيض الذي يلبسه النوبيين، فأحسن الوفادة وتناول معه طعام الفطور، وفي ملاحظته عن ذلك كتب أن حكام النوبة دائموا التنقل في أملاكهم ليجبو الخراج من رعاياهم، ويرافقهم على الدوام حرس من أربعون إلى خمسون رجلا، يعاونونهم جمعه قسرا إذا اقتضى الأمر، وليكونوا أيضا أقدر على سلب ونهب ما يعجب آل كاشف، الذين لم تكن سمعتهم تتسم بالعدل، يعلق بوركهارت على ذلك بقوله “حتى أنه في الليلة السابقة لوصولنا دهميت، التقاني أحد النوبيين فشكى إلي ظلم داوود وطغيانه، ذلك أن داوود نمى إليه أن الرجل وأسرته ينعمون سرا بأكل خبز من دقيق القمح، والذي كان ذو قيمة عالية في ذلك الوقت وفي هذه المنطقة التي تعتمد على أقراص الكابيدة المحلية بشكل شعبوي أكثر، وخبز القمح هذا يعتبر علامة ثراء واقتدار تستوجب دفع خراج أكثر إلى آل كاشف، لذلك حاصر داوود ورجاله بيت الرجل ليلا، وطالبوه بدفع بعير لهم، ولما أبى طلبهم هاجموا بيته، ولما لم يكن له جيران أقربون لينجدوه فقد أخفق في الدفاع عن نفسه، فأثخنوه جريحا وأخذوا ماله غنيمة.
أما بالنسبة لوصف الأطلال والآثار في هذا الطريق؛ مرورا بوادي دابود، وصل الركب لوادي قرتاس بعد خمس ساعات منه، حيث أطلال معبد صغير لم يتبقى منه غير ركن جدار، ولم ير فيه بقايا أعمدة، لكن تظهر على بعض الأحجار المتناثرة نقوش هيروغليفية قديمة، تكرر فيها رسم قرص الشمس المجنح – والذي رأيته في أغلب النقوش في المنطقة – كما وجدنا خرائب واسعة تجاه هذا المكان في الضفة الغربية، وقد ذكر الخبير النوبي أنه على بعد يوم كامل من هنا توجد خرائب مدينة قديمة أيضا تدعى قملة، ثم بعد مسيرة خمس ساعات وصلنا نجعا يدعى نجع الجامع، وبعده بساعة قرية تدعى تيفة، تقوم هاتان القريتان على ضفة النهر، وبتيفة هذه يوجد خرائب بنائين، قريبان من بعضهما، لكن لم يتبقى منهما غير الأساس، وهما مبنيان من الحجر الرملي بناءا بدائيا جدا، تبلغ مساحتهما أربعون قدما مربعة، إلا أنه لم تكن فيهما بقايا أعمدة ولا أحجارا منقوشة من أي نوع، أما على الضفة المقابلة للنهر، فتوجد خرائب أثرية أخرى أيضا ، ولا شك أنها خرائب (Contra Taphis, Taphis) ، وهما مدينتان أثريتان قديمتان معروفتان للعالم القديم، وهما (تافيس و كانترا)، وقد كانتا نقطة استراتيجية مهمة، إلا أن بعض القبائل البرية في الصحراء الشرقية والتي كانت تعرف بالبليميين، بدأت بالتطفل على الجزء الشمالي من النوبة السفلى، حيث احتلوا المدينتين وعاثوا فيها إفسادا، ثم اتخذوهما مركزا كعاصمة لهم في تافيس بالتحديد، وهي المنطقة المعروفة اليوم بكلابشة.