الآن وبعد وصولنا إلى قرية الدر، ولقائنا بحسن كاشف، والمحاورة الشيقة التي دارت بينه وبين بوركهارت، نتوقف قليلا عند ملاحظاته وأوصافه للإنسان والمكان والطبيعة على طول المناطق النوبية التي مررنا بها من أسوان إلى الدر، كما سجلها من وجهة نظره، وكما كتبها هو تحريا للمصداقية:
يتجه النهر في مجراه من أسوان لكرسكو من الشمال إلى الجنوب عموما، ثم ينحرف إلى الغرب، ويحتفظ بهذا الاتجاه الجديد طوال مجراه إلا دنقلا، وضفة النهر الشرقية في هذا الجزء من الوادي أصلح من ضفته الغربية، وتراها أينما كان لها عرض يذكر؛ مكسوة بطبقة خصبة من الغرين الذي يخصبه النيل فوقها، أما في الضفة الغربية فإن الصحراء تجتاح الوادي في غير هوادة، حتى تبتلع جرف النهر نفسه، ولا يتيح السهل الضيق في تلك المناطق قيام الزراعة عموما إلا في الجهات التي تصد الجبال فيها الرياح الرملية العاتية، ولهذا السبب نجد أن الضفة الشرقية أكثر عمرانا من الضفة الغربية من النهر، ولعل قدماء المصريين “النوبيين” كانوا أشد تدينا وتعبدا لآلهتهم الكريمة في البقاع التي يخشون فيها إله الشر الذي يمثل الصحراء “تيفون” -اسمه عند اليونان تيفون، بينما اسمه عند المصريين ست، وست هذا هو أخو أوزوريس وقاتله- وهو العدو اللدود لإله الخير أوزوريس والذي يمثل مياه النيل.
أما بالنسبة لما يزرعه النوبيين في هذه الأنحاء من الوادي الضيق؛ فإنهم ما أن ينتهي الفيضان حتى يزرع النوبيين الفقراء في الوادي الضيق الذرة والدخن (الذي يصنع منه الخبز)، ولكن جل اعتمادهم في الغذاء على محصول الذرة، كما أن سيقان الذرة الجافة في الصيف تصلح علفا لماشيتهم بدلا من التبن، أما برسيم مصر فلا يعرف هنا، ولا حتى في صعيدها جنوبي قنا.