مع بوركهارت في بلاد النوبة ج(1)

نبدأ هذه السلسلة في رحلة شيقة وهامة جداً، مع جون لويس بوركهارت، الرحالة السويسري، المبتعث من الجمعية الأفريقية بلندن، لكشف أغوار وأسرار أفريقيا، حيث كانت تقتضي مهمته الأساسية الكشف عن منابع نهر النيجر، إلا أن القدر أتى به إلى بلاد النوبة والسودان أولا، لتكون رحلته بذلك أحدث رحلة تفصيلية في العصر الحديث تتناول جغرافية وآثار بلاد النوبة والسودان والمجتمعات التي تعيش فيه، والمسافات التي تفصل مدنه المعروفة آنذاك عن بعضها بمقدار الأيام، والتكاليف والتقديرات الاقتصادية والمالية المتعارف عليها حينها.


بدأت الرحلة من أسوان في الثاني والعشرين من فبراير لسنة 1813م، بعد أن جمع معلومات كافية عن بلاد النوبة والطريق إليها من التجار الذين كانوا يفدون منها متاجرين في التمور والقطن والإبل، متزودا بوصية من حاكم إسنا التركي، إلى أبناء سليمان كاشف الثلاثة الذين كانوا يحكمون النوبة بينهم، وبوصية أخرى أيضا من “آل حباتر” الذين كانوا يحتكرون تجارة البلح النوبية في ذلك الوقت في مصر، والذين تجدي توصياتهم كثيرا مع التجار والمسافرين الذين سيلتقيهم على طول الطريق من أسوان إلى سنار، ومستعينا كذلك بهجينين من الإبل شديدي التحمل، وبدليل من الأدلاء الذين يخبرون سبل القوافل وأسرار الطريق.
وصل بوركهارت من إسنا إلى أسوان في أربعة أيام من المسير، وكتب عنها أنها حقا أبدع بلاد مصر قاطبة، التقى فيها حاكمها التركي أيضا الذي كان يلقب بالآغا، وطلب منه تزويده بخبير يصحبه إلى الدر حيث يقيم حسن كاشف أحد حكام النوبة، فزوده بخبير عربي عجوز من أصل نوبي، وكان أجره ريالا اسبانيا نظير مرافقته إلى الدر في رحلة مقدارها مائة وأربعون ميلا، وفي الرابع والعشرين من فبراير غادر أسوان ظهرا، حتى وصل إلى جزيرة الفينتين “جزيرة فيلة”، بمحاذات قرية صغيرة تدعى “البريا”، وهي الحد الجنوبي لمصر، مع العلم أن القرى الواقعة شمال قرية البريا وصولا إلى أسوان أيضا تتبع جميعها لإقليم البريا، والذي تم إعفاؤه من شتى أنواع الخرج بموجب فرمانات قديمة كان قد أصدرها الباب العالي، وتبدأ أملاك الأمراء النوبيين جنوبي البريا وتدخل في أملاكهم أيضا جزيرة فيلة والتي لا تبعد عن أسوان سوى أربعة أميال، وسكان هذه المنطقة حول الشلال سلالة مستقلة من النوبيين، تمتاز منطقتهم بأنها منيعة، يسكن الكثير منهم في جزائر النيل، وجل قوتهم معتمد على صيد السمك.


يذكر بوركهارت أنه في أثناء رحلته هذه كان النوبيين من أهل البريا في حرب مع جيرانهم جنوبا، حيث علم بحدوث معركة دارت رحاها قرب جزيرة فيلة، قتلت فيها امرأة حبلى من الجنوبيين برمية حجر، ويذكر أن ذلك ليس بغريب، حيث أن نساء النوبيين كن يشاركن في القتال أينما نشب، ويهاجم بعضهم بعضا في ضراوة ووحشية، وهن مسلحات بالمقاليع أو ما تيسر من السلاح، يذكرنا هذا بلقب الملكات النوبيات القدماء حيث كان يطلق عليهن لقب الكنداكات، ومفردها كنداكة، وهي كلمة تتكون من مقطعين “كندي كا” وتعني حاملة السلاح ، ومما يعضد هذا المعنى أيضا نقش يعود إلى العام 170ق.م تظهر فيه الكنداكة “شانداختو” ترتدي الدروع وتحمل الرمح في أثناء معركة.
واصل بوركهارت مسيره مرتقيا الجبل جنوب الجزيرة، ومن أوصافه احتواءه على أنواع لا تحصى من الجرانيت أجملها الوردي، وبه سلسلة من صخور السيانيت والفلسبار الأحمر، ثم هبوطا إلى ضفة النهر ثانية مع ملاحظة أن الضفتان تضيقان جدا هنا لدرجة أن عرض الأرض الصالحة للزراعة فيه لا يتجاوز المائة ياردة، وبعد مسيرة نصف ساعة بلغ بوركهارت وخبيره النوبي ومعهم خادمهم قرية ساق الجمل، ونزلوا فيها عند شيخها، حيث قضوا ليلتهم، وفيه يقول بوركهارت أنه تذوق لأول مرة صحن من الطعام يعيش عليه أهل النوبة في غالب طعامهم، وهو فطائر رقيقة من الذرة، غير مختمرة ومخبوزة خبزا خفيفا، تغمس في لبن حلو أو حامض، وهذا الطعام خشن جدا نظرا لرداءة طحن الذرة، -“تعرف هذه الفطائر محليا بالكابيدة، وهي القراصة التي يعرفها عموم الإقليم الممتد من اسوان إلى حدود السودان الحالي”- .

Related posts

إشكالية إدارة التنوع الثقافي في السودان

متحف محمد نور هداب

الديمقراطية للديمقراطيين

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. أقرا المزيد...