نختتم اليوم معكم نهاية الموسم الأول من رحلاتنا مع بوركهارت في بلاد النوبة أو سودان وادي النيل القديم، والممتد من منطقة إدفو شمال أسوان إلى ضواحي سنار، حيث كانت هذه هي حدود السودان القديم منذ التأسيس الأول لممالك كمت، وتاسيتي، وكرمة، ونوباتيا، والمقرة، وعلوا، وكوش، والسلطنة الزرقاء وغيرها من المسميات والتي هي وصف للحقب التاريخية المختلفة لنفس هذه الرقعة التاريخية.
وسنرفق مع هذا المقال صورا لخرائط الممالك القديمة، إضافة لصورتين لتمثالين للملك “توت عنخ آمون”، ومن خلال ذلك يمكننا رؤية حجم الاستلاب الفكري والتزوير التاريخي الذي مورس علينا بتواطئ حكوماتنا.
كما نأمل أن تكون رحلاتنا وإياكم بصحبة بوركهارت قد أمتعت أوقاتكم، وزادت من ذخيرتكم المعرفية، والثقافية، والتاريخية، عن تاريخنا القديم القريب إلى ما قبل الاحتلال التركي والاستعمار الإنجليزي، والذي قام بدوره بإنقاص حدودنا القديمة الشمالية بما يقدر ب 500 كلم طولا، ناهيك عن المساحة التي توازيه عرضا، وذلك بكل ما فيها من إرث وحضارة ممتدة ومتواصلة منذ عهود ماقبل الميلاد بل وما قبل التاريخ، لذلك فقد اكتفينا في الموسم الأول من رحلاتنا بصحبة بوركهارت في تغطية هذا القسم من إدفو إلى توشكى ووادي فريق، وهي الحدود الأخيرة المحاذية لمنطقة وادي حلفا في الحدود السودانية الحالية التي صنعها المستعمر الإنجليزي.
كما قام المستعمر الإنجليزي أيضا بإضافة مناطق جديدة للحدود السودانية طبقا لما استطاع أن يحتله من مناطق محاذية للسودان غربا وجنوبا، حيث استطاع الإنجليز ضم سلطنة دارفور الإسلامية الكبرى، بإرثها الفريد وتاريخها الغني والمشرف إلى ممتلكاته في شمال افريقيا “مصر والسودان”، كما ضم أجزاء أخرى أيضا من أوغندا وكينيا وأفريقيا الوسطى والكونغو الديموقراطية إلى هذه الرقعة الواسعة، وجعلها كلها تحت إدارة واحدة مركزية في القاهرة، وأخرى في الخرطوم، والتي أسسها المستعمر الإنجليزي كعاصمة بكافة مؤهلاتها من وزارات وإدارات وبنى تحتية.
ونورد هنا أيضا معلومة هامة أن المستعمر الانجليزي قد قام باقتطاع القسم الشمالي من بلاد النوبة وضمه رسميا إلى مصر عام 1899م، أي بعد 86 عاما من رحلة بوركهارت في بلاد النوبة 1813م.
وفي رحلتنا هذه نتحرى الدقة التاريخية في النقل والسرد، بعيدا عن أي تحيزات غير علمية أو لا تسندها الحقائق التاريخية المثبتة، ونتمنى أن يكون ما بذلناه من مجهود في النقل والسرد والترتيب قد لاقى ضالة الباحثين عن المعرفة والحقيقة، ونتمنى أن يفيد عملنا هذا الأجيال الحالية والقادمة في فهم ومعرفة تاريخها التليد، وربط الماضي بالحاضر والمستقبل، إسهاما وطنيا خالصا منا في معالجة الأخطاء التاريخية التي ارتكبت في حق هذا الشعب العريق وتجهيله بهويته وقطعه عن تاريخه القديم والمشرف، فباتت أزمة الهوية والتزييف مستشرية لدى كثير من النخب المنتفعة من هذا التجهيل، وما العلم إلا أمانة، وما التجهيل إلا خيانة، ونلتقيكم في الموسم القادم بإذن الله، من رحلات بوركهارت في بلاد النوبة.