مازلنا في الرابع من مارس لعام 1813م، وها قد خرجنا من توشكى لمسافة سبع ساعات تخللها عبور الجبل، حيث وصلنا بعدها إلى قرية “ارمنا”، وهي قرية جميلة تدخل في أملاك النوبة، ونحن في مسيرنا هذا بالطبع نقصد التوجه إلى العمق النوبي وصولا إلى دنقلا وشندي وسنار، ومن المفترض أن يكون اتجاهنا المباشر هو الجنوب، ولكن نظرا لكثرة انحناءات النيل خصوصا في هذه المنطقة، فإننا ننحرف بمحاذاته ومحاذاة القرى من حوله باتجاهات الجنوب الغربي والغرب.
وفي كثرة انحناءات النيل هنا بدءا من قرية “ارمنا” و “فرقندي”و “وادي فريق”، تكثر التماسيح النيلية، والتي تجد في هدئة التيار الذي تكسر سرعته كثرة انحناءات النيل مرتعا أفضل لها، وعن مشاهدات بوركهارت لها فيقول:
“ويروى عن هذا القسم من مجراه أنه مرتع للتماسيح، وقد رأيت بنفسي ستة منها راقدة إلى جوار بعضها البعض على شط رملي، والنوبيون جميعا يأكلون لحم التماسيح”.
وللنوبيين مع التماسيح ارتباط مقدس قديم، فقديما خرجت من شخصيته كيان الإله “سوبك” الإله التمساح، المعروف في ديانة وادي النيل القديمة، ويعتقد قديما أنه أحد آلهة الحرب، وأيضا مانح للخصوبة، ونجده دائما في الكتابات والنقوش التاريخية إما بشكل تمساح، أو بهيئة إنسان له رأس تمساح، ويرجع أقدم تاريخ معروف له إلى فترة الدولة القديمة (2181-2686) ق.م، وما يزال النوبيون إلى وقتنا الحاضر يولون التماسيح عناية خاصة، بل ويقوم البعض بتربيتها في بيوتهم في بعض المناطق النوبية التي لم يندثر منها هذا التراث بعد.
ثم بلغنا “فرقندي” بعد مسيرة ست ساعات من الجبل الذي تلى “ارمنا”، وهي قرية صغيرة توصف بأنها بغاية البساطة، إلا أنها تمتد أميالا، ويزرع النوبيون هنا قليلا من القطن، حيث يرى المسافر دوما على طول الطريق حقولا صغيرة من القطن منبثة على طول الطريق من قنا إلى دنقلا، وينسج النساء من القطن قمصانا خشنة أو يبعنه إلى تجار الدر مقابل الذرة، ثم بعد سبع ساعات ونصف مررنا بأطلال كنيسة إغريقية استعملت كمسجد بعد تحول السكان إلى الإسلام، أما جدرانها فمبنية من الحجارة الصغيرة إلى النصف، وأما أعلاها فمن اللبن، وعلى الملاط الأبيض كتبت أسماء عديدة للزائرين، ويرجع خط الكتابة إلى آخر فترة من حكم الدولة الحديثة.
Copyright secured by Digiprove © 2021 Ashraf Eltom