ما زلنا في قرية أبريم، ولبوركهارت ملحوظات شخصية هامة نوردها كما ذكرها بلا زيادة أو نقصان تحريا للمصداقية؛ حيث تعتبر هذه شهادة منه على ما رأى وعلم وعايش من أهل الحضارة النوبية الفاضلة طوال رحلته الشيقة التي قضاها في بلاد النوبة والسودان.
حيث يقول: “ولست أذكر في كل ما طفت به من بلاد الشرق بلدا كإبريم؛ يطمئن فيه الناس على ما لهم ويأمنون عليه من السرقة، فالأهالي يتركون الذرة ليلا في الحقول أكواما بلا حارس، وماشيتهم ترعى الكلأ على ضفة النهر دون راع يرعاها، بل تجد خير أثاث البيت يبيت الليل كله تحت النخل المحيط بالمنزل، وقد أجمع أهل الإقليم على القول بأن السرقة رذيلة لا يعرفها إقليمهم، ويجدر بي أن أضيف أن النوبيين في جملتهم لم تلوثهم هذه الرذيلة”.
وبالطبع فإن هذه الأخلاق وهذه الأمانة الفذة التي لاحظها بوركهارت في بلاد النوبة، لا تتأتى إلا لشعب استكمل مدارج الحضارة، والتي من أول أسسها الأخلاق، حيث بات التحضر طبعا يسري في جينات هذه البلاد جيلا بعد جيل، متوارثا لآلاف السنين، ومئات القرون، ولا بد لنا في عالم اليوم أن نحافظ على هذا الإرث النقي الكريم الذي توارثه الأجداد، مع الحفاظ على مواكبة تطورات العصر بما يتوافق مع قيمنا الكريمة، فلنا في تقدم العلم الذي تجوب تقنياته اليوم الباع الأساسي والقديم حيث نشأت أساسيات هذه العلوم في أرض النوبة أولا كما يثبتها علم التاريخ، ثم انتقلت إلى بقية العالم.
نستكمل مسيرتنا الآن خروجا من أبريم، حيث بعد مسيرة امتدت لساعة من الزمن هبطنا ضفة النهر عند وادي الشباك، وهي القرية التي لجأ إليها أكثر أهل أبريم بعد أن اجتاح المماليك واديهم، ثم بتنا ليلتنا في بيت لأبناء الآغا الذي قتله المماليك، وأينما حططنا نرى المزارعين يجتمعون في المساء عند البيت، وكان بوركهارت يزعم لهم أنه قادم في مهمة رسمية تتصل بالأميرين النوبيين المقيمين جنوبي السكوت، ويورد بوركهارت شهادة أخرى هنا فيقول: “والواقع أنه لا خوف من الفلاحين على المسافرين في بلاد النوبة، وهم خليقون بأن يطمئنوا إلى نواياهم بوجه عام، وإن كان هناك خطر عليهم فمصدره جشع الحكام وشرههم للمال”.