معضلات اخلاقية .. التطور الصناعي وصحتنا

في ثمانينات القرن الماضي في اليابان والجزر الاندونيسية ظهر مرض غريب بين السكان وسمي لاحقا بمرض البير بيري او بالإنجليزية (Beriberi)
 اقترح بعض العلماء ان سببه كان جرثوميا.. ولكن كان من الواضح انه غير معدي ولا يتأثر بالطرق التقليدية لعلاج العدوى والاهم لم يتم عزل أي مسبب جرثومي مرتبط بهذا المرض
اتجه العلماء الى وسيلة أخرى لدراسة المرض لم تكن حينها قد تطورت بعد.. وهي مراقبة الغذاء.. ليس كجودة وكونه نظيفا او فاسدا.. بل ماهيته ما هو طعام هؤلاء المرضى.. ما هو الصنف المشترك بينهم
ووجد العلماء ان كل هؤلاء المرضى يربطهم شي محدد.. الأرز.. كلهم كان غذائهم الرئيسي واحيانا الوحيد هو الأرز..
اقترح العلماء حينها أكثر من نظرية بديلة لنظرية المسبب الجرثومي.. من بينها ان الأرز يحتوي على سموم تسبب المرض.. كانت هي النظرية الأكثر جدلا في ذلك الوقت
بالنسبة للأوروبيين كانت مقبولة لأنهم لا يأكلون الأرز ولم يصابوا بهذا المرض.. اما للشعوب الاسيوية فهذه النظرية هي الأكثر سخفا على الاطلاق فهذه الشعوب تعيش على الأرز.. ولو كان الأرز ساما فكيف كان الأرز غذائهم الرئيسي منذ معرفتهم بالزراعة
الأرز هو السبب …….. ولكنه أيضا الوجبة الرئيسية لهذه الشعوب..
 قد يتبادر الى ذهنك عزيزي القارئ.. ان شيئا تغير في طريقة زراعة الأرز جعلته ساما.. مبيد حشرات مثلا او منطقة ملوثة بالإشعاعات او حتى تعفن الأرز في التخزين
انت تفكر بطريقة صحيحه.. ولو كنت عالما في ذلك الوقت كنت ستتقدم على اقرانك خطوة في سبيل الوصول الى حل اللغز
وكمكافأة لك على جهودك سوف اعطيك تلميحا..
انتزعت القشور من الأرز لجعله ابيضا واطيب مذاقا وأشهى شكلا وصورة
في البداية دعني أريك صورة للأرز الكامل والأرز المقشور ثم نتابع قصتنا
يمكننا القول ان الأرز هو غذاء نصف سكان العالم..
ولا شك ان التطور الصناعي والثورة الخضراء قد ساهما بشكل كبير في هذا الانجاز وجعلا من هذه المحاصيل وقودا للنمو البشري ونمو المجتمعات وامنها الغذائي وحدث هذا بسبب التطور في مجال الآلات الزراعية بعد اختراع المحركات البخارية وكذلك تطور صناعة البتروكيماويات وصناعة الاسمدة بشكل محدد
ادى هذا التطور الى وفرة في المحصول وارتبط ذلك مع اكتشاف الاسواق البعيدة في اقاصي الارض وكذلك ظهور الصناعات الغذائية بشكلها الجديد (اغذية معلبة في ارفف السوبرماركت)
وبالتالي ظهرت الحاجة الى طرق لحفظ هذه المحاصيل بشكل أفضل لشحنها الى الاماكن البعيدة وكذلك اطالة اعمارها في الارفف التجارية (shelf life). وكذلك تحسين شكل المنتجات لأسباب تسويقية.
ولا شك ان اهم المحاصيل العالمية (الذرة والقمح والأرز) كانت الهدف الاكبر لهذه التحسينات وهذا ما حدث..
ففي الأرز.. كان وجود النخالة والقشرة الخارجية يعتبر مصدر ازعاج للشركات الضخمة التي تصدر محاصيلها عبر القارات وترصها على ارفف السوبر ماركت
فالأرز الكامل بعد الحصاد مباشرة يحتوي على قشرة تجعل الأرز مطاطيا بعض الشي في المضغ.. وليس بالسهولة التي نعرفها في الأرز الأبيض.. وذلك بسبب وجود الالياف بها
وكذلك تحتوي القشرة على نسبة من الزيت مما يجعل تفسد أسرع في التخزين بسبب ظاهرة (التزنخ) التي تحدث للزيوت عام وهو (تأكسد الزيت) بسبب الجو والرطوبة وتغير طعمه ومذاقه
هذه الصفات جعلت الشركات وعلمائها يبحثون عن طرق لإزالة هذه الصفات لــ ” تحسين ” جودة الأرز
وهذا ما حدث.. تم انتزاع القشرة ومعالجة الأرز ليصبح البيضا خالي من الزيت ومن الالياف
وبسبب سهولة مضغه وتفضيله من قبل الأسواق بسبب عمر التخزين الطويل أصبح هو النسخة المفضلة من الارز في العالم (الى يومنا الحالي)
هذا السؤال الذي يدور في ذهنك هو نفس السؤال الذي كان يدور في اذهان علماء ذلك الوقت.. فاقترح بعضهم ان النشاء الموجود في الأرز الأبيض كان أكثر من اللازم وأصبح ساما.. واقترح اخرون ان الأرز يحتوي سموما ويوجد المضاد لهذه السموم في القشرة التي انتزعت
وبدات التجارب.. اول من قام بها هو جنرال ياباني في سنة 1884 حيث اعطى غذاء متنوعا في احدى السفن الحربية لكي يدرس تأثير الغذاء على البحارة الذين كانوا لا يأكلون الا الأرز الأبيض في السفن ويظهر فيهم المرض بشدة.. وفعلا كانت نتائج تجربته رائعة.. ولم يظهر المرض في السفينة.. الا ان البحرية اليابانية رفضت المشروع بحجة ان تكلفة تغيير طعام الجنود في ظل الحرب هي رفاهية لا يملكونها.. كانت تكلفة عالية
 قام عالم هولندي اخر بتربية مجموعة من الحمام واطعامهم الأرز الأبيض فقط.. فظهرت عليهم اعراض غريبة.. أصبحت رؤوسهم تتحرك بصورة غريبة متكررة.. ثم كانوا يموتون بعض ظهور هذه الاعراض بأيام قليلة.. ثم لاحظ ان هذه الاعراض تشفى وتختفي في غضون 30 دقيقة إذا اعطاهم الأرز الكامل.. الأرز المحتفظ بقشرته
أجري غيرهم من العلماء المزيد من التجارب بنفس الشاكلة على الدجاج وحيوانات أخرى وكانت النتائج مماثلة.. علاج هذا المرض موجود في القشرة الخارجية للأرز
ثم توالت الاكتشافات وتمت دراسة هذه القشرة لمعرفة السبب.. ولم يكن معروفا وقتها الكثير عن العناصر الغذائية
وتم تحديد عنصر محدد.. وسمي (مضاد البير بيري) وبعد فترة اقترح العلماء نظرية أصبحت مشهورة في وقتنا الحالي
وهي ان هذا العنصر ليس فقط مهما لعلاج هذا المرض.. بل انه يعالج كثيرا من الامراض لدرجه ان عدم وجوده في الغذاء يعني الموت المحتم.. وظهرت كلمة Vitamin
وهي كلمة مشتقة من أساسي للحياة Vital وأميني Amine وهو نوع من المركبات الكيمائية
وهذا يا صديقي القارئ هو اول فيتامين يكتشف وسمي بالثيــــامين (ب 1).. وتوالت بعده اكتشافات الفيتامينات
وهؤلاء هم العلماء الذين قاموا بهذا الاكتشاف بداية من التجارب وصولا الى عزل الفيتامين و تصنيعه معمليا


وهكذا نجد ان التطور الصناعي والتوسع في الأسواق قادنا الى ان نغير تركيبة غذائنا وهذا التغيير قادنا الى اكتشاف اسرار الحياة ولكن بتكلفة باهظة
وأخيرا إذا كنت تظن ان هذه القصة في الثمانينيات فقط.. فهذا المرض مازال منتشرا الى يومنا .. ولا يعرف المصابون به انه فقط ينقصهم مجرد فيتامين قد يوجد في قشرة الأرز التي ترمى (كشوائب تم التخلص منها)
الان عزيزي القارئ اريدك ان تجاوب هذا السؤال.. هل يوجد نوع من الحبوب في بلدك تم تغييره.. وهل تعتقد ان لهذا أي تأثير؟

Related posts

الكوليرا حيث الماء سر الحياة وسر الموت

آلام مخفية

العلاج بالطب البديل

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. أقرا المزيد...