معاني جديدة للقديم

مُنذ أن عرِف الإنسان اللغة و هو في محاولة مستمرة للسيطرة عليها؛ يحاول أن يطوعها لتعبر عن ما يريده بالضبط، يُمني النفس بتعبير يماثل بما يعتمل في الدواخل، بعضهم يفلح و الآخر ما زال في حالة شد وجذب إلى الآن، لذلك هُناك بعض الكُتّاب الذين عَبّروا عن أنفسهم و استلفوا آحاسيس العالم أجمع ليجسدوها تعبيراً حيّاً؛ وكأنهم أرادوا بذلك أن يصنعوا عبارات جاهزة ككبسولات الدواء تناسب الجرح تماماً، ما إن يصاب أحدهم بشئٍ في شعوره إلا و تجده في حالة قلقٍ مستمر و بحث عن ما يعبر عن ذلك الذي يعتمل في الدواخل، ما الذي يوازي ذلك الإشتعال في الداخل؟.
كيف يصف ما يدور بداخله لشخص في غالب الأحيان لن يقدر ذلك الشعور بقيمته و بذات دقة الإحساس؟
بل كيف يصف الفرح الذي إحتاحه، كيف أنه يشعر الآن بأنه خفيف و يحلق عالياً بعيداً عن هذا العالم المزدحم و كأنه لم يكن فيه للحظة واحدة، أي مفردات تعبير تستطيع أن تصف بدقة ما يريد قوله…؟!!
هناك مَن تفوق على وصف الشعور، و بالغ في رسمه بالمفردات، بطريقةٍ يحسدها عليه كل الذين خانتهم اللغة في موقف حوجة بالغ التعديل، فغاصوا بعيداً فيها بحثاً و تنقيباً عن كلمات تجسد ما يدور هناك في الداخل، فلم يجدوا شيئاً يوازي نصف الذي يعتمل، فاستعانوا بمحركات البحث عن وصفات جاهزة من الجُمَل التعبيرية و المقولات المأثورة عَلّها تكون البديل الأنسب للوصف و التوضيح، لكن كلها غير مُرضية ثم استعانوا بمن يُشهد لهم بالدراية باللغة والإبحار في عوالمها، فَشذبوا لهم من بحور الشعر أعذبه وصفاً و تشريحاً و من النثر أبرعه و من الأدب أفضله، و النتيجة أن ذلك رغم جودته و بلاغته و جماله إلا أنه غير حقيقي؛ لا يعبِّر عن هذا الذي يشعرون به، لا يصفه بالضبط، ليس بالدقة التي يريدونها، بل حتى ليس فيه صِلة قرابة، ثم تناسوا الأمر و مرت الأيام و بينما هم يعيشون حياتهم صافحت أعينهم عبارة كلمحق البرق و لكن الذاكرة التقطت لها صورة باللونين الأسود و الأبيض و قلّبت في دفاتر الماضي لتجد ذلك الشعور و تطابقه و تعيده للذاكرة من جديد.
الذين يجيدون التعبير حتى عن الآخرين بطريقة مذهلة، تمر عليهم لحظات لا يجدون فيها حرف يسعفهم ليقولوا نصف الذي يريدون قوله، فتجدهم متجهمين صامتين؛ يعتقدون أنهم فقدوا المقدرة على التعبير و الكتابة؛ أو ربما عاتبهم إحساسه على إستهلاكه فيما ليس يعنيهم، تجد أن كل محاولاتهم باءت بالفشل في التعبير؛ جربوا كل حِيّل الكتابة فأحضروا الورق الأبيض، ثم جربوا الكتابة على الكمبيوتر، صنعوا مشروبهم المفضل، جلسوا في مكان هادئ، و لكن لا شئ يحدث مجرد صمت قاتل، و لا حتى حرف واحد يدور بذهنهم، حاولوا أن يختبروا إحترافيتهم و قدرتهم على صناعة الشعور و تجسيده على شاكلة أحرف، فتجدهم ما أن يكتبوا كلمة إلا و أعادوا كشطها من جديد، لا شئ يفيد فيلجأون للبكاء كتعبيرٍ فطري؛ و الذين خانهم التعبير و يخونهم دوماً تجدهم في سؤال أبدي لما نحتاج للبوح..  أليس الصمت أفضل حالاً ؟ فإذا خالجهم شعور ركضوا باحثين عن تعبير يقللون به من وقع الفاجعة فكأنهم يتمثلون قول الشاعر الصديق أحمد الريح (زحزحة) :
الوجعة باردة على الببوح.. و تَسِل رِويحة البكتمها..
فتجد الجميع في حالة بحث مضني عن ما يمكن أن يقولوا به ما يريدون.
إذن .. مَن منكم يتطوع و يقول عني ما الذي أحاول قوله؛ فبعد كل هذه الأحرف التي دلقتها هنا إلا أنني أشعر بأنني أسبح في الفراغ، لم أمسك بالمفردة التي تصف ما أريد قوله بجملة واحدة.
قولوها عني إن وجدتموها..

Related posts

السودان ما بعد الإتفاق الإطاري

حوار الطرشان

الصحافة مسؤولية .. وليست جريمة

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. أقرا المزيد...