محاولة فاشلة للتعبير

يُحكى أن الروائي الفرنسي مارسيل بروست ترجم بعمق معنى الخُذلان و المخذولين حين قال:
” لقد قرعوا الأبواب التي لا تفضي إلى شيء ” ..
و كم من بابٍ وقفنا أمامه منتظرين نراقب نزيف أعمارنا التي تتآكل مع الثواني في إنتظار ما نُمنِّي النَفس به، و المُحصلة خذلان و خيبة…
يحدُث أن تخذلك أشياءك التي تراهن عليها، كأن يخذلك الوقت في حضرة مَن تُحِب فيمضي سريعاً غير آهبٍ بك و بما تبتغي، أو تخونك مقدرتك على التعبير في لحظةٍ أنت أحوج ما تكون فيها لأن تقول التعبير المناسب؛ فتتلعثم و تتعثر العبارات على عتبات شفاهِك وتلوذ بالصمتِ المطبق، أو قُلت غير الذي تريد، أو تخونك أمنياتك التي رصفت ليها الأيام عملاً، و العمر ورداً؛ فتتمنع و تأبى حتى الحضور في مخيلتك..  أن يخونك مزاجك فيتكدر في يومٍ و أنت تبحث عن صورةٍ تعيد بها توازنك الذي فقدت، أن يخذلك كل شئ وثقت فيه، فليس الأشخاص فقط هم الذين يخذلون…
و ما بين الخذلان و الكتمان؛ تضيع الكثير من الأحاسيس التي كان يمكن لها أن تكون حضوراً في الواقع، أن تكتم خيباتك و خذلانك و أنت تمضي تجرجر خلفك أذيال الهزيمة التي تعرضت لها حتى من ذاتك، من قلبك الذي لم يشاورك في الأمر فورطك في محبة أحد ما، أن تواري جرحك و تمضي في حياتك بجناحٍ مكسور…
أقوياء أولئك الذين استطاعوا أن يواروا سوأة أحزانهم عن الناس و خرجوا للعالم بوجهٍ مشرق بعد أن غسلوه بماء اليقين، أتعجب لقدرتهم على التجاوز والتخطي و هم يقودون خطاهم نحو ما يبتغون و باليد الآخرى يضمدون جراحهم، أتعجب كثيراً من مقدرة الذين طوعوا الحرف فخطوا تعبيراً يناسب الحالة تماماً؛ كأنما حولوا وجه الصورة إلى كلمات فصارت الجُمل طبق الأصل عن المعنى، فأوصلوا معنى الكتمان وتجاوزوا بذلك جراحاتهم و مضوا في سبيلهم مرددين :
” أخفي الدموع عنك.. وأضحك أمام عينيك “
ليس كتمان فحسب، بل و إظهار الوجه الأجمل الذين يتمنون، يتمثلون الفرح و يرسمونه على وجوههم رغم عناد الدموع، و تحايلها على الظهور في المشهد كلما وجدت مساحة، هي ذاتها الصورة التي رسمها الشاعر إسحق الحلنقي و التي وقفت عندها مرات كثيرة؛ في تلك المقدرة على التمثيل أمام وجه المحبوب حتى لا يشعر بحزنك، و التدثر بغطاء البسمات لتواري حزنك و نزيفك الداخلي، و بكاؤك الذي لا ينقطع:
” ورا البسمات كتمت دموع … بكيت من غير تحس بيا “
بسيطون جداً نحن لدرجة أن تسعدنا بسمة عابرة، أو كلمة بسيطة، بسيطون لدرجة أن كل الخيبات غير قادرة على إيقافنا عن الحلم، تفرحنا أشياء بسيطة و لا نمتكلها، يعجبنا عازفو الكمان على نواصي الطرقات، مناظر الجداريات و هي ترقص على حواف الطوب و الإسمنت، مناظر الكتب وهي تستلقي على أرفف المكتبة، موسيقى معبِّرة…
ولكننا في حالة نزاع مستمر مع الحياة وعقباتها و أحداثها، الحياة التي يوم أن جئناها نشكو برودة الأجواء لتدثرنا و تزملنا، أحرقتنا بنارها بحجة أنها تريد تدفئتنا، هكذا نحن بكل هذه المشاعر المتناقضة و المتضاربة..
نحاول أن نمضي في حياتنا دون أن نخدش أو نجرح.

Related posts

السودان ما بعد الإتفاق الإطاري

حوار الطرشان

الصحافة مسؤولية .. وليست جريمة

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. أقرا المزيد...