بقلم : محمد عامر عبيدي
في إحدى الصباحات الجميلة وأنت تحتسي قهوة الصباح وبيدك صحيفة اليوم وتصل لصفحة الجرائم وتجد العنوان الآتي :
القبض على مجرم قتل 100 طفل تتراوح أعمارهم بين 5 – 10 سنوات.
هنا يبدأ الجانب الأخلاقي منك بالتساؤل هل يمكن أن يوجد شخص بهذا الإجرام؟
وما مدى إنسانية هذا الشخص؟
ويبدأ لسانك بكيل اللعنات والاستعاذة من مثل هذه الأفعال.
لكن لنركز على السؤال المهم ، هل يمكن أن يرتكب إنسان مثل هذه الجرائم دون أدنى شعور بالندم؟!
قبل الإجابة على هذا السؤال دعني أحكي لك قصة (برادلي والدروب) الذي أطلق النار على صديق زوجته ثماني مرات ، وبعدها اعتدى على الزوجة بساطور واعترف بالجريمتين وحصل على إدانة بالقتل من الدرجة الأولى وحكم بالإعدام.
لكن لم تنته القصة هنا فاستأنف فريق الدفاع الحكم وطلبوا مساعدة طبية انتهت بوجود (اضطراب جيني) لدى برادلي يعرف (بـ جين المحارب) يرتبط بسلوك غير اجتماعي كالعنف المفرط .
وشهد الطبيب الشرعي أن الخريطة والدروب الجينية والإساءة التي تعرض لها خلال طفولته هي السبب الرئيسي لسلوكه العنيف.
وتعتبر هذه القضية إحدى القضايا التي تدخل فيها (علم الوراثة) وغير موازين المحاكمة.
في سبيل فهم مفصل للأمر دعني أخبرك عن إحدى الدراسات التي أجريت بمعهد (كارولينسكا) بالسويد وهو من أكبر المعاهد الطبية في أوروبا ويوكل إليه سنويا اختيار الفائزين بجائزة نوبل في الطب والفسيولوجيا ، أجرى بحثا على مجموعة من المساجين المقبوض عليهم بجرائم عنيفة كالقتل والاغتصاب وقارنها بمساجين بتهم خفيفة كالسرقة والاحتيال ﺣﻴﺚُ ﺍﻛﺘﺸﻒ ﺍﻟﺒﺎﺣﺜﻮﻥ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﻴﻨﺎﺕ ﺍﻟﻮﺭﺍﺛﻴﺔ ﻓﻰ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺍﻟﻤﻴﻮﻝ ﻭﺍﻟﺴﻠﻮﻛﻴﺎﺕ ﺍﻟﻌﺪﻭﺍﻧﻴﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺠﺮﻣﻴﻦ لا توجد في باقي المساجين.
وتم نشر البحث في المجلة العلمية (Molecular psychiatry) واكتشفوا وجود الجين (MAOA) المسمى بجين المحاربين والجين (CDH 13) بنسب مرتفعة جدا بين الذين ارتكبوا جرائم عنيفة مثل القتل والتعذيب.
يمكن أن نقول أن التساؤل عن الأصول الجينية للعنف بدأ عام (1978م) بعد دخول سيدة لمستشفى (مدينة نايميخن الجامعي) بهولندا حيث استشارت أحد الأطباء عن بعض التصرفات لدى ابنها وبعض إخوتها ، فقد اشتبهت إصابتهم باضطراب عقلي .
اثنان منهم قاما (بجرائم حرائق) متعمدة وحاول آخر اغتصاب شقيقته ، بينما حاول آخر قتل مديره في العمل من خلال صدمه بسيارته ، وآخر أشهر السكين بوجه شقيقاته مجبرا اياهن على خلع ملابسهن ؛ وبعد أكثر من عشر سنوات تمكن الباحثون من اكتشاف السبب حيث ﺗﻮﺟﺪ ﻟﺪﻯ ﺍﻟﺮﺟﺎﻝ الذين يميلون ﻟﻠﻌﻨﻒ ﻃﻔﺮﺓ ﻭﺭﺍﺛﻴﺔ ﻋﻠﻰ (ﺍﻟﺼﺒﻐﻲ ﺇﻛﺲ) ، ﻭﺃﺩﺭﻙ العلماء ﻻﺣﻘﺎً ﺑﺄﻥ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻄﻔﺮﺓ ﺗﻘﻊ ﻋﻠﻰ الجين المسؤول ﻋﻦ ﺇﻧﺘﺎﺝ (ﺇﻧﺰﻳﻢ ﺃﻭﻛﺴﻴﺪﺍﺯ ﺃﺣﺎﺩﻱ ﺍﻷﻣﻴﻦ) .
ﻭﺑﻤﺎ ﺃﻥ الجين يقع ﻋﻠﻰ (ﺍﻟﺼﺒﻐﻲ ﺇﻛﺲ) ﺍﻟﺬﻱ ﺗﻮﺟﺪ ﻟﺪﻯ ﺍﻟﺮﺟﺎﻝ ﻧﺴﺨﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻣﻨﻪ ﻓﻘﻂ، ﻟﺬﻟﻚ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﺮﺟﺎﻝ ﺃﻛﺜﺮ ﻋﺮﺿﺔ ﻟﻠﻤﻌﺎﻧﺎﺓ ﻣﻦ ﺁﺛﺎﺭﻩ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻟﻨﺴﺎﺀ ﻳﻤﺘﻠﻜﻦ ﻧﺴﺨﺘﻴﻦ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺼﺒﻐﻲ، ﻓﺈﺫﺍ ﻛﺎﻧﺖ ﺍﻟﺠﻴﻨﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻨﺴﺨﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ ﻣﻌﻴﺒﺔ، ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻏﺎﻟﺒﺎً ﻣﺎ ﺗﻜﻮﻥ ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻨﺴﺨﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻭﺗﻌﻤﻞ ﺑﺸﻜﻞ ﺟﻴﺪ، ﻭﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ ﻳﻤﻜﻨﻬﺎ ﺍﻟﺘﻌﻮﻳﺾ ﻋﻦ ﺍﻟﻌﻴﺐ ﺍﻟﺠﻴﻨﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺴﺨﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ.
ﻭﻟﻜﻦ ﺑﺎﻟﻤﻘﺎﺑﻞ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻨﺴﺎﺀ ﻧﻘﻞ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺼﻔﺔ ﺍﻟﻮﺭﺍﺛﻴﺔ ﺇﻟﻰ ﺃﺑﻨﺎﺋﻬﻦ .
ﺑﻌﺪ ﺍﻟﺘﻮﺻﻞ ﺇﻟﻰ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﻌﻠﻮﻣﺎﺕ ﺃﺟﺮﻳﺖ فحوصات ﻟﻠﻨﺴﺎﺀ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺎﺋﻠﺔ ﺳﺎﻟﻔﺔ ﺍﻟﺬﻛﺮ ﻟﻠﺘﺄﻛﺪ ﻣﻦ ﻭﺟﻮﺩ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺠﻴﻨﺔ ﺍﻟﻤﻌﻴﺒﺔ ﻟﺪﻳﻬﻦ ﺃﻭ ﻻ.
وعلى صعيد آخر وجد باحثون ألمان عائلة كاملة لها تاريخ حافل بالجرائم العنيفة كالقتل والاغتصاب وإشعال الحرائق يتشاركون نفس الاضطراب الجيني.
هذه القضايا فتحت الباب للمشاريع البحثية في هذا المجال حيث تم حصر الكثير من الجينات والإضطرابات المسببة للعنف منها جين (MOAO) الذي يوجد في الذكور لذا غالبا ما يكون السفاح او المجرم ذكرا . وأيضا تلف خلايا الدماغ والتعرض الشديد للعنف في الطفولة مما يسبب اضطرابات نفسية للشخص.
إن ﺍﻟﺘﺼﻮﺭ ﺑﺄﻥ ﺍﻷﺳﺲ الجينية للعنف والجريمة ﻗﺪ ﺗﻜﻮﻥ ﻣﻮﺟﻮﺩﺓ ﻓﻌﻼً ﺃﺭﺑﻚ ﺍﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻠﻤﺎﺀ ﻭﺍﻟﺒﺎﺣﺜﻴﻦ ﻓﻲ (ﻣﺠﺎﻝ ﺍﻷﺧﻼﻗﻴﺎﺕ) ، ﺇﺫ ﻳﺆﻛﺪ ﻫﺆﻻﺀ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﺍﻟﻌﻮﺍﻣﻞ ﺍﻟﺒﻴﺌﻴﺔ ﺗﻠﻌﺐ ﺩﻭﺭﺍً ﻛﺒﻴﺮﺍً ﻓﻲ ﻛﻴﻔﻴﺔ ﺗﻌﺒﻴﺮ ﺍﻟﺠﻴﻨﺎﺕ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻭﺗﺄﺛﻴﺮﻫﺎ ﻓﻲ ﺳﻠﻮﻙ ﺍﻟﺸﺨﺺ ؛ فقد يتشاطر مواطن بسيط نفس الجينات العنيفة التي قد يحملها أحد أفراد (جهاز الأمن في النظام البائد) الذي اعتاد على اغتصاب المساجين وتعذيبهم بأبشع الوسائل ، لكنه لم ولن يقوم بارتكاب هذه الجريمة في حياته.
هذا النقاش انعكس على ساحات المحاكم فأصبحت بدورها منصة للنقاش العلمي والأخلاقي حول دور الجينات ، ففي الفترة بين عامي (1994م – 2011م) تشير بيانات المحاكم الأمريكية أن محامي المجرمين المتهمين بجرائم عنيفة احتجوا حوالي 80 مرة لأسباب جينية.
(براندلي والدروب) والذي تحدثت عنه في بداية المقال حصل على حكم مخفف بعد الإستئناف فهل تعتقد يا عزيزي القارئ صواب المحكمة بالاعتراف بـ الاضطراب الجيني؟
قبل الختام هذا المقال ليس دفاعا عن المجرمين والإجرام بقدر ما حاولت فيه لفت النظر لجانب آخر من دوافع الجريمة المحتملة. إذ أن هذا الأمر كان أحد الأسباب التي دعت الاتحاد الأوروبي لإلغاء حكم الإعدام في محاكمها وآمل أن يجعلك تعيد التفكير وأنت تقرأ في جريدة الصباح فربما كان هذا المجرم السايكوباثي يعاني من اضطراب وراثي كان يمكن علاجه وتفادي كل هذه الجرائم.
ختاما ما زال الجدل قائما حول علاقة الجينات بالجرائم ومن يدري لعل في المستقبل القريب قد يمكن استئصال الشر بالهندسة الوراثية ولعل الدراسات التي أجريت في هذا المجال خير دليل على إمكانية علاج الشر.
6 تعليقات