كل أسبوع نصطدم بأخبار مقلقة عن المزيد من حالات السرقة والنهب والعنف.
طبعا نعرف الدوافع لمثل هذه التصرفات، ولكن لا يوجد أي تبرير لهذه التصرفات في مجتمع يطالب بالمدنية، ويغرد بالتطور وبات يعتبر نفسه من المجتمعات الأكثر تعليماً وسط القارة، وأجياله الجديدة التي اعتبرناها من طليعة المجتمعات بعدد حملة الشهادات الأكاديمية وعدد الدارسين في المعاهد الأكاديمية العليا، لدرجة أن عشرات الاف ابناء شعبنا الطلاب، ينطلقون للعالم الواسع من أجل العلم والتقدم العلمي.
لكننا بنفس الوقت، ما زلنا عالقين بتصرفات بعيدة تماما عن الجانب المشرق في تطورنا العلمي والحضاري.
هذه الإنجازات لم تأت بدون تضحيات من العائلة، بفهم الجيل الأكبر سنا أن مستقبل أبنائه، في الواقع السياسي والاجتماعي العنصري السائد، هو العلم والتقدم العلمي.
رغم ذلك ما تزال فئات معينة تتصرف بما يتناقض بشكل كامل مع القفزات التي ننجزها، كأنها من عالم آخر غير عالمنا.
إذن هذا التناقض بين الاندفاع للرقي الحضاري والعلمي، وتكاثر حوادث العنف في مجتمعنا، هو حالة نادرة في المجتمعات البشرية
هذه الحالة تحتاج الى دراسة للعمق، لفهم هذا التناقض، وهذه المفارقة المذهلة بين كوننا نتقدم أكاديميا وعلميا ونبرز كمجتمع حضاري يسابق المجتمعات المتقدمة بعدد الأكاديميين والمتعلمين، بينما في الواقع الاجتماعي نعاني من عنف من أوساط في مجتمعنا وكأنهم نبتة أخرى غريبة عن واقعنا.
بعض الاشخاص وجهوا اللوم على الشرطة التي لا تقوم بلجم هذه الظاهرة.
لكن هذه الظاهرة علمياً، كحالة من حالات علم النفس الاجتماعي.
واضيف ان فهم هذه الظواهر يحتاج الى دراسة تاريخية لتطور مجتمعنا، وفهم العوامل التي تقود مجموعات من مجتمعنا إلى حل مشاكلها بالعنف.
ومن منظوري الشخصي هذه الظاهرة عبارة عن تراكمات نفسية نتيجة القمع والإذلال المعيشي والنفسي سببه السلطة على مدار حكومات السودان عبر فرض حكم العسكر، وتقييد الحريات ومصادرة الأراضي، والهدم والتشريد، ومواجهة احتجاجات شعبنا بالنار والقمع، والتمييز العنصري بكل ما يخص المجتمع.
السؤال هل ما نشهده اليوم هو نوع من التمرد الذي ترسب في نفوسنا من واقعنا السياسي والاجتماعي والاقتصادي؟ نوع من رفض قطف الرأس لنوجهه ضد بعضنا وليس ضد منفذ تلك السياسة؟
كل التفسيرات سليمة ولا خلاف عليها، لكننا كما الاحظ لم نضع يدنا على الأسباب الحقيقية لظاهرة العنف، بكل ابعادها، ليس بحالات النهب والسرقة فقط بل ايضا بالصراع المتعدد الأشكال حول الكثير من القضايا الاجتماعية والاقتصادية، التي تقودنا في الكثير من الحالات ليس الى الصدام الجسدي فقط، بل الى التوجه للقضاء، وكثيرا ما لا ينجح القضاء بتسوية الخلاف، وربما يعمق ظاهرة الصراع والخلاف وربما العنف بأبشع أشكاله أيضا.
لا اود الاطالة، لكني من معرفتي لواقعنا الاجتماعي ارى الكثير من الوقائع التي تقودنا الى العنف بكل اشكاله.
اولا نحن لسنا مجتمعا عاديا في تطوره.
نحن مجتمع فقد مكانته المتقدمة بالانقلابات العسكرية
لابد أن نفهم واقع التمييز الذي نعاني منه في مجتمعنا بسبب سيطرة منظومة عسكرية مسيسة باسم الدين، التي تهدم حلمنا الوطني، وتهدم كل مسببات تطورنا كمجتمع في الواقع الجديد الذي نعيشه منذ آخر انقلاب، سنبقى عاجزين عن فهم الأسباب الحقيقة للنفسية العنيفة التي تسود أوساط كثيرة من مجتمعنا، بعضها يجري التعبير عنه بعنف مدني ارهابي، وبعضها بصراع بأساليب متعددة.
هذا الواقع يتناقض مع الجانب الرائع من مسيرتنا التعليمية وازدياد مكانتنا الأكاديمية بين المجتمعات.
تناقض خطير جدير بدراسة أوسع.
لكني سأضع بعض النقاط التي أراها وراء هذا التناقض بين كوننا من أبرز المجتمعات التي أصبحت نسبة حملة الشهادات الأكاديمية فيها تتجاوز المعدلات، لكن بنفس الوقت يزداد العنف الديني والطائفي والقبلي.
كما أسلفت نحن واجهنا حالات انقلابية لواقعنا الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ترك أثره الهائل على علاقاتنا ومبنى مجتمعنا، من مجتمع مضطهد إلى مجتمع اجبر على التحول الى مجتمع مدني بظروف القهر، وليس بالتطور الطبيعي.
المجتمع السوداني يعاني من اجحاف بالغ الخطورة، التمييز ضد المواطنين (الغير شماليين) كان يمارس من قبل كل مؤسسات الحكومة، وهو ليس وليد الصدفة
بدون تغيير جوهري بصورة أعمق واعادة النظر في أهداف سياسة السلطة بما يخص المواطنين المضطهدين (الغير شماليين)، بتغيير جوهري من اجل اعادة رسم السياسة الرسمية الممارسة معهم، سيبقى المجتمع السوداني مجتمعا معزولا.
ولا أرى انها بدون تخطيط سياسي أعمق من مؤسسة السلطة قادرة على إجراء تحول في واقعنا الاجتماعي يقلص مساحة العنف السائد.
كانت السياسة العنصرية (ضد الغير شماليين) تواصل اعتبارهم طوائف وليسوا قومية لها حقوقها، بل مجرد نزلاء، لدرجة ان اوساط سياسية كثيرة ما زالت تحلم بتشريدهم من العاصمة.
المجتمعات التي تعاني من صراع اثني قومي داخلي تعتبر من أهم المواضيع التي تتناولها الدراسات السياسية بهدف الوصول الى جهاز سياسي مستقر يساهم بالتطور لكل المواطنين من كل الانتماءات الإثنية.
هناك أسلوبان متبعان في عالمنا في الدول حيث تعيش قوميتان وثقافتان.
الأسلوب الأول هو أسلوب الهيمنة، والأسلوب الثاني هو أسلوب التسوية (البعض يسميه الحل الوسط).
في السودان يسود أسلوب الهيمنة الابويه، وكانت تعتمد الدولة على الجغرافيا العرقية الشمالية وعلى سيطرتها على النظام السياسي وعدم إعطاء الجماهير الشرقيه والغربيه والجنوبيه وممثليها أي مكانة سياسية في السلطة ولهذا السبب جاءت الحركات المسلحة لتلك المناطق تطالب بالحكم والعدل والمساواة.
أي سياسة عنف مبرمجة، ولا يخجل قادة الأحزاب السودانية من التأكيد أنه لا مكان لهم حتى آتت حكومة الوفاق للتقاسم السلطوي.
التسوية او الحل الوسط هو أسلوب متبع في عدة دولة منها بلجيكا سويسرا وغيرها، يعتمد على المساواة الكاملة للمواطنين، بكل مجالات الحياة والخدمات الحكومية.
نجد أن هذه المجتمعات تخلو من ظواهر العنف القومي العنصري والفاشي الذي يتزايد مثلا في السودان، ان كان بالقتل لأبناء الشعب،كما حدث في عهد الانقاذ في حملات التطهير العرقي وسياسة التضييق، بعدم تخصيص أراضي للبناء وسياسة هدم البيوت والتشريد المبرمج.
لا استهجن أن عنفنا هو وليد العنف الذي نعيشه ووليد الضائقة التي نواجهها منذ الانقلاب رغم كل التحولات، ولا أرى أن تقدمنا العلمي كان مخططا بل نشأ على قاعدة الوعي الذاتي واستعداد العائلات للتضحية من أجل مستقبل مختلف لأبنائها، رغم أنف السلطة العنصرية.
ولكن انقلبت الايه بعد الثورة فأصبحت سياسة الهيمنة ضد الشماليين في مرمى البصر لمن يبصر … فعدنا الى تلك الدائرة المفرغة وكأننا نعيد العصر المظلم بسياساته العنصرية ولكن بقيادات جديدة ستمارس نفس الأهداف العقيمة في وطن واحد يدعو للسلام و المواطنة وحقوقها !!.