لغة الكلام ورقة وقلم

لما عجز اللسان عن الكلام ووقفت الحروف في موقف الحيرة، وغابت الحقيقة في زمن فيه من الباطل والزور ما يكفي ليكون الصمت معبراً أمناً لسالكي طريق الفصاحة والبلاغة وجمال الأسلوب الصامت، وفعل ذلك للوصول إلى بر الأمان، فمن نطق بالحق كان معهم، ومن كتب بالخير أقواله وأفعاله كان معهم، ومن لم يحسن ذلك عليه سلك طريق آخر وهو الصمت.

عليه نطق السكوت ذات يوماً قائلاً: إني مهما طال صمتي سيأتي يوم النطق بالحكم، وبكلمة مني وبشهادة كل الصامتين في زمن الثرثرة والقيل والقال سيُنهي القاضي صمتاً طال دهره ومل البعض إنتظاره، حينها سيعلنها عامة أن الكلام بعد السكوت حقُ يُوبخ كل الشامتين بـ (قولهم) ويدافع عن الكاتبين والناظرين بـ (صمتهم).

فالإنسان بطبيعته يتكلم قبل أن يتعلم ويكتب، فالقلم لا حول له ولا قوة بل هو ترجمان لما يُمليه عليه العقل من ردود الأفعال وبعض التصرفات التي تعكس لنا مدى شخصية المتحدث وأسلوبه، ويظل الاختلاف قائماً حول أهمية الكتابة ولباقة الكلام، وأيهما الأكثر تعبيراً وفضلاً عن الأخر.

القلم يخُط العبارات كاتباً أنا الأكثر تعبيراً وبلاغةً وأسلوباً، وفي كثيراً من الأحيان يعجز اللسان عن النطق بشئ ويلجأ الإنسان إلى الكتابة للتعبير عن ما بداخله من مشاعر وأحاسيس قد تبدو مبعثرة وتحتاج إلى وسيلة تُرجمان لبعض العبارات التي نحتاج إلى فك شفراتها، تلك الاستفهامات التي نحتاج إلى كثير من الإجابات لتوضيحها، وشيء من علامات التعجب التي تحتاج إلى كل الأوراق ليس لبعضها، لنكتب ونتعجب في هذا الزمان الذي نال فيه العجب نصيب الأسد تاركاً للحيرة أخر السطور لتُعبر عن مجريات الأمور بشيء من الاندهاش والذهول.

لذلك قد يكون القلم الأكثر تركيزاً فيما يُكتب حقيقةً، فاللسان قد يتلعثم ويتكلم على عجل، وكثير من الحروف تحتاج إلى الترتيب وضبط الأسلوب، لذلك يبقى القلم الأقرب وصولاً لكل محطات الوصال.

قد تحدث بعض الإنفعالات باللسان والقول الذي يخرج لا يمكن إدراكه أو تعديله، فتخرج الكلمة في غير موضعها فيما يسمى بـ (ذلة اللسان)، وهنا يستعرض القلم عضلاته ويُفردها مخاطباً أنه الأفضل والأكثر إيجابية وانسيابية، والبعض يرى أنه بالكتابة نستطيع التحكم في أنفسنا وانفعالاتنا بصورة أفضل من الخطاب المباشر الذي يصاحبه شيء من التوتر والارتباك، لأنه ليس هناك من يرانا أو يراقبنا، وربما هذا ما يجعلنا نُفرغ ما بداخلنا ونبوح بكامل مشاعرنا، فإن حدث خطأ في الكتابة يمكننا تعديله وإدراكه.

أيضاً القلم يظل تعبيراً صادقاً ومعبراً جيداً لما في دواخلنا من مختلف الإحاسيس دون خجل أو تردد أو خوف، فاللسان يبقى الأكثر كذباً وخجلاً وتردداً وتصعُب عليه الكثير من الكلمات، حينها يكون القلم البديل الأول للتعبير عنها بقوة المفردات وتنوع المعاني.

القلم نكتب ونغلف به الكلام الذي إن قلناه باللسان خلف جُرح وكسر، ليكون الخيار الأمثل والأفضل لمن غلب حيائه لسانه.

بالرغم من أفضلية الكتابة إلا أن كلاهما يحمل مضموناً بعينه في إيصال المعلومة، وكل شخص له طريقته وأسلوبه، فهذا يعبر باللسان أحياناً وذاك يعبر بالقلم أحياناً والبعض منا يكتب أفضل مما يتكلم، والبعض الاخر يتكلم أفضل مما يكتب، وهناك من يرى أن الاثنين ليسوا في حكم الإيجابية المطلقة، فاللسان قاتل والقلم ظالم ويبقى الحديث قيد النظر إلى أن تأتي لغة جديدة تعبر عن الإنسان بطريقة مختلفة ومتجددة، وقد تأخذ لغة الأصابع دورها لتكون اهدأ لغة في الكون والأكثر انسيابية ووضوح اجتماعاً مع لغة العيون.

ورقة أخيرة
ما بين الذي يتهرب منك بالإجابات المُبهمة ويتحدث بالألغاز، وذاك الذي لا يجيد الكتابة ولا يمكنه إيصال المعلومة وصياغتها كتابياً، يبقى الإختلاف موجوداً في مجتمع يمكن أن نجزم بأن نصف إفراده يجيدون التصنع في الحديث عن المثالية، والنصف الآخر يكتب بالقلم حروفاً باطنها الحقيقة والصواب وظاهرها الكذب والخداع، فأصبحت الحقيقة غائبة رغم أنها حاضرة أمام للجميع، إلا أنه كُتب على جدار مجتمعنا (إياك أن تقول الحقيقة)، فأصبح ما بداخلنا سراً هو سر البوح الذي يعلمه الجميع.

Related posts

السودان ما بعد الإتفاق الإطاري

حوار الطرشان

الصحافة مسؤولية .. وليست جريمة

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. أقرا المزيد...