لغات شمال السودان من منظور تاريخي

تعتبر فترة العصور الوسطى من أهم الفترات التي من خلالها تشكلت السمات العامة للغة السودانية الدارجة هذه الأيام، و قبل أن ندلي بدلونا في هذا المجال رأينا أن نورد هذه الورقة العلمية الهامة للدكتور بروس تريجير و التي هي بعنوان (لغات شمال السودان من منظور تاريخي) ليتعرف القارئ أولاً على اللغات القديمة و يكون خلفية تاريخية عنها قبيل الحديث عن العصر الذي سبق ظهور لغتنا العامية التي نتكلم بها الآن (هسي).

إليكم الجزء الأول من الورقة، حيث قمت بتحزئتها إلى جزأين لكي لا أضطر إلى اختصار أي جزء منها نسبةً لطولها.

لغات شمال السودان من منظور تاريخي

بروس تريجر

ترجمة: فؤاد عكود

انشغلت لسنوات عديدة في البحث عن مختلف مشاكل التاريخ الثقافي للجزء الشمالي من جمهورية السودان. لدى محاولتي معالجة هذه المشكلة فكرت في تفحص التاريخ اللغوي للمنطقة. وبينما كنت أقوم بذلك وجدت نفسي مواجهاً بعدد من الفرضيات المتناقضة التى تتعلق بمشاكل تاريخية محددة، بعضها تم طرحها بشكل خاص مؤرخون افتقدوا على نحو لا يمكن إنكاره المعطيات اللغوية الكافية. وفرت الدراسات الأخيرة لـ اللغات الأفريقية التى قام بها جرينبيرج Greenberg 1955; 1963 مادة جيدة لإعادة فحص الفرضيات المختلفة تلك. لذا فإنني أدين بالعرفان لكل من أعماله المنشورة وللمعلومات التى زودني بها.

معظم الجزء الشمالي من جمهورية السودان مأهول حالياً بالمتحدثين باللغة العربية الذين تحدروا إما عن تلك المجموعات التى دخلت إلى المنطقة في القرن الرابع عشر، أو من السكان الأصليين الذين تعلموا العربية من الأوائل. تتحدث الشعوب البجاوية التى تسكن الصحراء الشرقية باللغات الكوشية ذات القرابة باللغات الأخرى المتحدث بها في كل أنحاء إثيوبيا، والصومال. وطبقاً لـ جرينبيرج فإن اللغات الكوشية، والسامية، والبربرية، والمصرية القديمة، والتشادية تشكل فروعاً متناسقة لعائلة اللغات الآفرو- آسيوية. وهناك ما يدعو للاعتقاد بأن البجة سكنت في الصحراء الشرقية لأزمان طويلة، وأنهم من سلالة البليميين الذين ذكروا في الروايات الكلاسيكية، والمدجاي الذين ذكرتهم النصوص المصرية القديمة. إن اقتصار اللغات البربرية في مناطق غربي النيل، واللغات الكوشية في مناطق شرقي النيل، واللغة المصرية القديمة في وادي النيل نفسه يسبق تقريباً نهوض الحضارة المصرية. وتنتمي اللغات الأصيلة الأخرى في السودان بشكل رئيس إلى عائلة لغات نيلية- صحراوية مقترحة واقعة بين اللغات الآفرو- آسيوية لشمال أفريقيا ولغات النيجر- الكونغو الواقعة في الجنوب. في السودان فإن العائلة الفرعية الأكثر انتشاراً لـ اللغات النيلية- الصحراوية هى اللغات الشرق سودانوية. تسود هذه المجموعة في الجزء الجنوبي من السودان وفي منطقة البحيرات العظمى لشرق أفريقيا. الفروع الرئيسة التى وجدت في جنوب السودان هى بيير- ديدنجا، وتيمين، والنيلوية. وقد وجدت أبعد إلى الشمال – في المنطقة التى يسود فيها المتحدثون بالعربية في السودان – ستة فروع أخرى هى : الباريا، والتابي، والمراريت، والداجو، والنياما، والنوبية. وتنتمي اللغات الأخرى في السودان إلى اللغات الصحراوية، والفوراوية، والمابان، والكومان بالاضافة إلى تقسيمات نهري شاري- النيل المنتمية لعائلة اللغات النيلية- الصحراوية. وفي الجنوب هناك أيضاً جيوب صغيرة من اللغات الكردفانية، والأدماو الشرقية التى تنتمي إلى عائلة لغات الكنغو- كردفانية.

إن الاهتمام الرئيس في هذه الورقة هو إعادة بناء توزيعات لغات الجزء الشمالي من السودان فيما قبل انتشار اللغة العربية. بالتأكيد فإن المعطيات غير مفصلة بشكل كاف لنا يسمح بتتبع توزيعات كل المجموعات الصغيرة. لقد تركزت كل التخمينات على توزيع اللغات الشرق سودانوية، بخاصة في قسمها النوبي. الأخير يمكن تقسيمه إلى أربع مجموعات: النوبية النيلية، والنوبية الكردفانية، وجبل الميدوب، والبرقد Greenberg 1963: 85. وتتكون نوبية النيل من لغتين هما الدنقلاوية الكنزية والمحسية- الفديجا التى يتحدث بها في وادي النيل؛ الثلاث الأخريات، التى عادة ما يشار إليها مجتمعة بـ نوبية الجبال، فهى مجموعات منعزلة في كردفان ودارفور. معروف من الروايات التاريخية والنقوش المحلية أن النوبية كانت موزعة بشكل واسع  في وادي النيل في القرون الوسطى أكثر مما هى عليه في الوقت الراهن. لم يتم التحدث بها حينها فقط في دنقلا بل أيضاً في مملكة علوة التى كانت حاضرتها بالقرب من الخرطوم الحالية.

لقد كان الجدل الأساسي بشأن تاريخ اللغات النوبية يدور حول ما إذا كانت قد انتشرت من كردفان ودارفور إلى وادي النيل، أم تحركت من وادي النيل باتجاه معاكس إلى كردفان ودارفور. كان هارولد ماكمايكل Macmichael 1922 أول من اقترح بأن اللغات النوبية أدخلت إلى الجنوب الغربي من وادي النيل حيث تم تبنيها من قبل السكان الأصليين. أما هيرتزوج Herzog 1957، الذى لاحظ أن نوبية الجبال تحتوي على مفردات مصرية ومسيحية، فقد شعر بأن هذا قد حدث بعد عام 500 م. ويقترح مردوك Murdock 1959: 158 أن اللغة النوبية كان يتحدث بها في وادي النيل منذ أزمان مبكرة تعود إلى العصر الحجري الوسيط (الخرطوم الميزوليتية)، وأن لغات نوبية الجبال قد نقلها إلى موقعها الحالي النوبيون الفارون أمام غارات العرب المسلمين في القرون الرابع عشر- السادس عشر. هذا في حين يعتقد آركل Arkell 1961: 174 أن تلك العملية تمت في حوالي سنة 300 م. وأن القادمين إلى الجبال كانو من الفارين أمام الغزو الاكسومي، وأن التقاليد الأصيلة وسط قبائل كردفان ودارفور تدعم ادعاء هذه الهجرة باتجاه الغرب، إلا أم مثل هذه التقاليد قد تعكس ببساطة تأثيرات مروية أو تأثير ممالك النوبة المسيحية في تلك المنطقة.

من جانب ثان يعتقد زهلارز Zyhlarz 1928 بأن نوبية الجبال قد نُقلت إلى موقعها الحالي من منطقة كردفان، ويفترض أن هناك هجرتان، الأولى تحركت شمالاً عبر الصحراء لتؤسس مملكة نوباديا في النوبة السفلى، والثانية نحو الشرق لينبثق عنها النوبا الزرق الذين استقروا في منطقة مروي (البجراوية) في القرن الميلادي الرابع. أما كراوفوت Crowfoot 1925 وشيني Shinnie 1955 وكيروان Kirwan 1939: 42 فإنهم يدعمون على الأقل الجزء الأخير من نظرية زهلارز واقترحوا أصلاً جنوبياً لثقافة تنقاسي (علوة) والتي ماثلوها بالنوبة الزرق.

وقد اقترح ميليت Millet 1964، الذى أجرى أعمال تنقيب آثاري في جبل عدا، رأياً مخالفاً لفرضية زهلارز. طبقاً لرأيه ربما كانت المرَّوية هي اللغة الوحيدة المكتوبة في النوبة السفلى عندما أصبحت مأهولة مجدداً في القرن الثالث ق.م. بعد أن كانت قد أضحت منطقة خالية من السكان على مدى سنوات طويلة. لقد كان غالبية القادمين الجدد من المتحدثين بلهجة سلف مباشرة للدنقلاوية- الكنزية. في القرن الميلادي الثالث احتل النوبيون المتحدثون بالمحسية- الفديجا الجزء الأوسط من النوبة، دافعين بالمتحدثين بالدنقلاوية- الكنزية شمالاً إلى المنطقة إلى الجنوب مباشرة من أسوان وجنوباً إلى إقليم دنقلا. هذا ما يفسر الوضع الوسط للمحس- الفديجا بين اللهجتين الكنزية والدنقلاوية اللتين تربطهما علاقة وثيقة.

اقترح ويات مكجافي Wyatt MacGaffey 1961 بدوره نظرية أخرى تمزج ظهوراً متأخراً للنوبية في الأقاليم الوسطى لوادي النيل مع أصل نيلي لنوبية الجبال. يقترح أنه كان هناك تحرك سريع نحو الشمال لشعوب متحدثه بلغة شرق سودانوية من إقليم الشلك الحالي بحلول عام 300 م. ليستقروا في وادي النيل وأصبحت اللغة التى حملوها معهم هي اللغة النوبية الحالية. فيما بعد تم حمل لغات نوبية الجبال الجنوب الغربي عن طريق قادمين لاجئين من وادي النيل.

تشتمل كل واحدة من تلك الفرضيات، ضمنياً أو بشكل صريح، استنتاجات تتعلق بالعلاقات بين مختلف اللغات النوبية. ففرضيات كل من ماكمايكل، وهرتزوج، وآركل، ومردوك، ومكجافي تطرح علاقة وثيقة بين نوبية النيل والمجموعات الثلاث لنوبية الجبال. أما ميليت وزهلارز فيعتقدان بوجود علاقات أكثر بعداً. وتشير أبحاث جرينبيرج إلى أن هذه المجموعات الأربع من التقسيمات الأولية لـ اللغة النوبية وأن دراسة كرونولوجية زردمية تؤرخ التجزوء الأكثر حداثة للنوبية النيلية إلى لغتين دنقلاوية- كنوزية ومحسية – فديجا في سنة 860 ± 200 ميلادي. بما أن جرينبيرج يحذر من الاعتماد الكبير على تاريخ منجز عن طريق منهج غير متفق عليه، فإن نتائجه من الممكن استخدامها دليلاً معقولاً.كل ما كان الانقسام أشد قدماً بين الأقسام الرئيسة للنوبية، والتي يصفها جرينبيرج بحسبانها  انقسامات “معقولة”، توحي بأن أية فرضية تقتضي اشتقاق اللهجات الجبلية من النوبية النيلية في الـ 2.500 سنة الأخيرة تكون غير صحيحة. ومن جهة أخرى يبدو أن فرضية ميليت تطرح انفصالاً ممعناً في القدم بين اللغات المحسية- الفديجا والدنقلاوية- الكنوزية. إن الفكرة الخاطئة بأن نوبية النيل ونوبية الجبال ذات قرابة وثيقة إنما نتجت جزئياً عن فشل الرحالة في التمييز بين كلام النوبيين النيليين الذين هاجروا إلى كردفان ودارفور في القرون المتأخرة وبين لغة نوبيي الجبال في حد ذاتها. ويبدو أن مثل هذه الهجرات تواصلت أثناء فترة الحكم التركي القمعي.

ويقترح جرينبيرج الاعتماد كلية على الأساس اللغوي لمنشأ التحركات الأخيرة التى تشير إلى منطقة كردفان-دارفور مكاناص لأصل كل المجموعة. “إن المحدد الزردمي، بسماحه بفترة احتلال جغرافي أشد محدودية بالتالي الاحتفاظ بوحدة لغوية،  السماح لفترة أطول للاحتلال الجغرافي، يدعم وجهة نظر مثل تلك التى يقول بها زهلارز الذى يذهب للقول بأن النوبية النيلية قدمت من الجنوب في حوالي 400 ميلادية” Trigger 1965.

مثل هذا التفسير وجد دعماً له في المصادر التاريخية القديمة. طبقاً لـ سترابو (Strabo, XVII, 1, 2) يقال أن اراتوسفين ذكر شعباً يسمى النوباي في حوالي عام 200 ق.م. وقد وصفهم بحسبانهم قبيلة كبيرة مستقلة عن الإمبراطورية المرَّوية تعيش إلى الغرب من النيل بين مروي وانحناءات النيل. تشير العبارة الأخيرة في الغالب بكل تأكيد إلى إقليم دنقلا Arkell 1961: 177 * وطبقاً لـ بليني الأكبر Pliny, VIXXXV، الذى كتب في القرن الميلادي الأول، فإن النوباي كانوا يعيشون في تلك الفترة في وادي النيل، ربما في المنطقة المجاورة لجزيرة أرقو. ووضعهم بطليموس Ptolemy, IV: 748-83 في عام 150 ميلادية على الضفة الغربية وجزر النيل. أما في القرن الرابع فقد أطلق الإثيوبيون على هذه المجموعة اسم النوبة الحمر Arkell 1961: 173. كما يبدو بجلاء فإن هذه الروايات توحي بهجرة نوبية بطيئة باتجاه الشمال الشرقي. لقد اقترحت في مكان آخر أن نوباتاي بروكوبيوس الذين يقال أنهم استقروابالقرب من أسوان في عهد دوكليتيان ربما كانوا يشنون الغارات على الواحة الخارجة من وادي النيل أكثر من كونهم كانوا يعيشون في المنطقة المجاورة للواحة Trigger 1965: 134-35. إذا كان الأمر كذلك فإن فرضية الهجرة التى يقترحها زهلارز عبر الصحراء تكون غير ضرورية، وأن وصول النوباتيين إلى المنطقة المجاورة لـ أسوان هي مجرد حدث آخر لاستقرارهم في وادي النيل. احتمالاً أن يكون هذا الشعب قد تثاقف في وقت قصير بعد وصولهم إلى وادي النيل وهم لازالوا بعد في إقليم دنقلا.

يبدو ليّ، مع ذلك، أنه غير صحيح تماماً أن نماثل بين ثقافة المجموعة الثالثة أو بلانا في منطقة النوبة السفلى وبين النوبيين، بخاصة طالما أن الثقافة يبدو وقد تطورت خارج إطار الثقافة المرَّوية، وأن عناصرها الجديدة كانت قد انتشرت في معظم مركباتها من مصر. كانت ثقافة المجموعة المجهولة، في الغالب، مشتركة لكل المجموعات التى تعيش في النوبة السفلى – أي المرويين والبليميين بالإضافة إلى النوبيين بين القرون الثالث- السادس الميلادية. ومع ذلك، يبدو أنه خلال هذه الفترة كان على اللغة النوبية أن تحل بالتدريج محل اللغات التى كان يتم التحدث بها هناك.

أبعد إلى الجنوب، وجدت مجموعة نوبية، تسمى في النقوش الإثيوبية بـ النوبة السود (النوبا- الزرق كما يسميهم أسامة النور- المترجم). اجتاحت هذه المجموعة مروي في القرن الرابع Arkell 1961: 172-173 ويبدو أن هذا أنه يمكن ربط هذا الشعب بثقافة تنقاسي البدائية، وقد وصفوا في النقوش الإثيوبية بأنهم يعيشون في مدن عشش من القش والقصب (التى تبدو خاصة بهم) ومدن منازلها من الطوب والتي أخذوها عن الكاسو أو المرويين.. ومن المحتمل أنه كان لدى هذه المجموعات فرصة أقل للتثاقف مقارنة بالمتحدثين بالنوبية إلى الشمال منهم، قبيل وصولهم إلى المنطقة المعروفة آثارياً. ونسبة لشح المواد المكتوبة من علوة، فإننا لا نعرف عما إذا كانت لهجتهم هي نفسها المتحدثة أبعد إلى الشمال أو أنها كانت مختلفة إلى حد ما.

Related posts

إشكالية إدارة التنوع الثقافي في السودان

الديمقراطية للديمقراطيين

جرائم عبر القرون ج (10)

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. أقرا المزيد...