كلاسيكيِّات السينما – دعاءُ الكَرَوَان

لطالما كانت الفترة من بداية الثلاثينيات وحتى مطلع السبعينيات بمثابةِ العصر الذهبي للسينما المصريَّة، والذي شَهِد عرض مجموعة من أجمل أفلام الكلاسيكيات، وفي هذه الفترة وتحديداً في عام ١٩٥٩م قدَّم لنا المُخرج الكبير “هنري بركات” واحدةً من أعظم الكلاسيكياتِ السينمائيةِ التي إستطاعت أن تُخلِّد إسمها في ذاكرة المشاهدِ العربيّ حتى يومِنا هذا.

“دُعاء الكَرَوَان” مَلحمة بَدويَّة مَزَجَت بين براعة النصِّ السردي، وبراعة التجسيدِ البَصري، مخلوطاً بنكهة إبداعيَّة إخراجيَّة.

القصَّة:

الفيلم عن قصَّة عميد الأدب العربي “طه حسين”، سيناريو وحوار “يوسف جوهر” و “هنري بركات”.

تبدأ أحداث الفيلم بدايةً روتينيةً عاديةً تكشف لنا الواقع المُزري الذي تعيشه إحدى الأُسر الصعيديَّة المُكوَّنة من الأم وفتاتين ومعاناتِهما في ظِلِّ غياب الأبّ وتسلُّط الخال.

فالزوجة مغلوبة على أمرها، تُواجه هي وبناتها خطر التشرد من قريتهم بعد مقتل زوجها نتيجة لأفعاله النكراء وأعتدائه  على أعراضِ الناس، وهي الجريمةُ التي تَوَجَّبَ على الأسرة دفعُ ثمنها غالياً، فأصبح الخال هو المُتحكم في العائلة، وهو شخصيَّة ذكوريَّة متسلِّطة، تحكُم على الفتاتين وأمهما بالبُعد والتهجير عن قريتهم خوفاً من معايرة الناس له بنسيبه، ليُلقي بهم في غياهِب المجهول دُونما رحمة!

تُهاجر الأسرة وتستقر في إحدى المُدن الطرفية، ومنها تبدأ رحلة البحث عن عمل يَعيلُ العائلة، فتلجأُ الفتاتين للعمل في خِدمة البيوت.

“هنادي” وعلى عكس أُختها الصغرىٰ “آمنة” حظُّها العاثر أوقعها في براثِن ذِئبٍ بشريٍ إستغل سذاجتها، وسَلبَها برائتها وعُذريتها، وهو الذنبُ الذي دَفَعت “هنادي” حياتها ثمناً له على يدِ خالها لدرءِ الفضيحة التي لَحِقت بالأسرة.

ومن هنا تبدأ أحداثُ حكايتنا في التصاعد؛ عندما تقرر “آمنة” الإنتقامَ لمقتلِ أختها “هنادي”، فتُحاول بكلِ السبلِ أن تعمل كخادمةٍ في منزل المهندس الذي عَشِقَته أختها، وكان سبب بؤسها وموتها،  لتبدأ رحلة أنتقامها، وتبدأ معها معاناتها!

الشخصيات:

رَسَم “طه حُسين” شخصياته بِعنايةٍ فائقةٍ عَكَسَت لنا طبيعة المجتمع في تلك الفترة بكلِّ أطيافهِ والوانهِ، الجاهلةُ والمُتعلِّمةُ، القامِعةُ والمقمُوعةُ، شخصياتٌ بَرَعَ “بركات” في إختيار أبطالها، وفي نسجِ حوارٍ خَصبٍ يعكس تنوُّعَها.

ولعل شخصيَّة “آمنة” والتي جسدتها النجمة “فاتِن حمامة” في أحد أعظم أدوارها السينمائيَّة، هي الشخصيَّة المِحوَريَّة التي تدور حولها أحداثُ الفيلم، شخصيَّة مرَّت برحلة تحول كبيرة، من تلك الفتاة البريئة الخجُولة المنكسرة، إلى فتاةٍ تملؤها روحُ الإنتقامِ والثأرِ لمقتل أختها.

فحدثُ مقتلِ “هنادي” كان هو اللحظةُ المِفصليَّة التي غيَّرت مجرى الأحداث، وغيَّرت معها مصير “آمنة”، وحوَّلتها لشخصيَّةٍ عابسةٍ ومُتجهِّمة، تَحمِلُ بداخلها روحاً حزينةً تئِنُ تحت وطأة الفقد، وكُرهاً كبيراً ناحيةَ الرجلِ الذي غَدَرَ بأختها، وناحيةِ الخال الذي نصَّبَ نفسهُ قاضياً وجلاداً حَكَمَ ونَفَّذَ عُقُوبة الموت بأختها من دون أن يَرِفَّ له جفنٌ، ومن دون أن يسأل حتى عن ماهيَّة الشخص الذي كان سبباً في الفضِيحةِ، أو أن يسعىٰ لمُحَاكَمتِهِ.

وقد نَجَحَت “فاتِن حمامة” في عكسِ التغيُّر الكبيرِ الذي مرَّت به “آمنه” من السَذَاجةِ للخداع، ومن البراءَةِ لِلمُكر، حتى أصبَحَت كلُ السُبُلِ لَديها مُبَرِرة للوصول لِغايتها وتحقيقِ إنتقامها.

وبِجَانِب “فاتِن حمامة” و”أحمد مظهر” فقد لَمَعَت أسماءٌ أخرى، مثل: الفنانة القديرة “أمينة رزق” في دورِ الأُم، والفنانة “ميمي شكيب” ‘زَنُّوبة’، و”زهرة العُلا” ‘هنادي’.

رؤية تحليلية:

عالَج “طه حُسَين” في قصتِهِ ثِيماتِ الخطيئة والثأر والحُبِّ بأسلُوبٍ سرديٍّ شيِّقٍ وسَلِس، من دون أن يتجاهل التأثير الكبير للطبيعةِ البشرية وطبيعةِ المجتمع في تِلك الحقبة.
فَفِي مجتمعٍ تُهَيمِن عليه سلطةٌ ذكوريةٌ مستبدةٌ تقومُ على مبدأ إضطهاد المرأة وإعتبارها مصدراً للعار، عارٌ لابدَّ من وأدِه، قدَّمَت لنا القصَّة عدةَ نماذج لهؤلاء النِسوة ومدىٰ القهر والإضطهادِ الذي تَتعرضن له في تلك المجتمعات، وكذلك السُلطة التي منحتها تلك المجتمعاتُ للرجالِ والتي تتيح لهم إستغلالَ النساءِ وتعنِيفهنَّ واللإفلات من العِقاب.

كذٰلك فَضَحَت التناقضَ الكبير في هذه المجتمعات فيما يتعلق بجرائمٍ مثلَ جرائمِ الشَرَف، فبينما تُجرِّم المرأة وتعاقِب بعقوباتٍ قد تصلُ للموت، يتمُّ تجاهُل الطرفِ الثاني “الرجل” من دونِ أن يُحاسَبَ أو حتَّى يُلَام على نفسِ الخطأ!

مابين الرواية والفيلم:

طائرُ الكَرَوانِ كان هو البطلُ الخَفِيُّ الذي كان حاضراً في جَميع الأحداثِ التي لَحِقَت بالعائلة في الرِوَاية والفيلم، مُناجاة “آمنة” للكَرَوانِ وهيَ تشكُو لهُ تَغَرُّبها عن دارها، وتشكُو لهُ ألم فُقدانِ أُختها، وتصحبُه في رحلتِها لِيَكون شاهداً على إنتقامِها كانت سمةً حافَظَ عليها الفيلم في نَقلهِ للرواية، وبالرغمِ من ذٰلك فإنَّ الوَصف لِمُناجاة “آمنة” لطائرِ الكَرَوَان كان أبلَغَ ما يكونُ في سُطُورِ الرواية والتي حتى وإِن إقتَبَسَ “يوسُف جَوهر” مُعظمها إلا أنَّ تلك المساحَة الضيِّقة التي يُتيحها السيناريو لِنقلِ أحداث أيَّ عملٍ أدبيّ قَلَّلت من ذلك الوصف، ولكن ذلك لم يمنَعنا من الإستمتاع ببعضِ النُصوص الجميلة على لسان بطلتها “آمنة” وهي تُناجي كَرَوانها.

كذلك فإن إعتماد الرواية على النُصوص البلاغيَّة والسرد القَصَصِيّ، وقلَّة أهتمامها بالحوار جعل التحدي كبيراً أمام كاتِبِي السيناريو لِصُنع توليفةٍ سينمائية تماثِلُ بلاغةَ الرواية، وقد نجحا في ذلك بصياغتهما لحواراتٍ خصبةٍ ماثلت اللغة البلاغيَّة للرواية، وعَالَجت الدوافِع النفسيَّة لشخصيَّاتِها بِبراعة.

الأختلافُ الكبير كان بين نهاية الرواية والفيلم، ف”طه حُسَين” كانت لهُ فلسفته الخاصَّة في جعل النهاية أكثر تسامحاً، مُتَبنِّياً فَلسفة قوَّة الحُبّ التي تَستطِيع أن تُغيِّر في النفوس، وأَن تَتَغلَّب على الصِعَاب، ولكن “بَرَكات” كان لهُ رأي آخر يَقُومُ على مبدأ العِقَاب والجَزاء، فأنتَصَر للمشاهِد في نهايته مُقدماً له النتيجة العادِلة التي يُريدها وينتَظِرُها.

ولعلَ التَمَاثُل الوحِيد بين نهاية الرواية والفيلم كان في جُملة “طه حُسَين” المشهورة، والتي تمَّ سردُها بِصَوتِه في النِهاية السينمائية “دعاء الكَرَوَان! أتَرِينَهُ كان يرجِع صَوته هذا الترجيع حين صُرِعَتْ هَنَادي في ذلك الفَضَاء العرِيض؟!”.

أُختِيرَ الفيلم في المرتبَة الـ ١٤ ضِمن قائمةِ أهمَّ مئة فيلم مِصريٌّ في القرنِ العشرين، ورُشِّح لِجائزةِ “الدُبِّ الذهبي” من مهرجان بَرلين السينمائي الدَولي سنة ١٩٦٠م، كما وَصلَ إلى مركزٍ مُتَقَدِّمٍ في المنافسةِ على جائزةِ الأوسكار كأفضلِ فيلمٍ أجنبي.

يقدم لكم قسم السينما هذا الأسبوع تغطية مميزة لباقه من الكلاسيكيات العالمية عبر فعالية “أسبوع كلاسيك”. تابعوا بقية المقالات عبر الروابط التالية:

Related posts

السينما الإيرانية ما بين مطرقة ضعف الإمكانيات وسندان القيود الرقابية

قراءة في ترشيحات أوسكار 2022

مسلسل تشيرنوبل

5 تعليقات

يوسف 2021-10-18 - 2:22 صباحًا
فاتن حمامة دي زولة أيونة في التمثيل وأي حاجة تتعلق بالسينما شكرا بالجد على المقال ده لأنه اتكلم فيلم أسطوري كان
سماح 2021-10-16 - 11:03 مساءً
دعاء الكروان انا حاضراهو اكتر من 10 مرات من روعته ياااخ😁 مقالك حلو وممتع شديد وجاااذب جدا
محمد 2021-10-16 - 4:32 مساءً
فكرة مقالات الأسبوع ده عجبتني جدا والله والمقال ده بالذات أنا استمتعتا بيهو شديد وبسببه حمشي احضر دعاء الكروان بكل شغف
ايناس 2021-10-16 - 12:36 مساءً
انا بحب فاتن حمامة جدا❤️السينما المصرية الكلاسيكية مدرسة لاصحاب الاهتمام الاخراجي والسينمائي المفروض
سلمى 2021-10-16 - 1:57 صباحًا
تخيل رائعة من روائع نجيب محفوظ وتمثلها فاتن حمامة ❤️ صراحة حبيت انك اتكلمتي عن الفيلم المفضل لي ❤️ بحييكم الأسبوع ده جدا على ابداعكم ده ومواضيعكم المممممتعة شدييد ❤️
Add Comment

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. أقرا المزيد...