جميعنا نعلم بسالة، وعدم تقبل المناطق السودانية بممالكها المختلفة للاستعمار ، و حكمهم من قبل من لا يمت للأرض السودانية بصلة. مهما كان الدافع لذلك دينياً، أو ثقافياً،أو غيره.
إن استيلاء محمد علي باشا على السودان، وضمه إلى رقعة الدولة العثمانية هو شيء في ظاهره طيب ومرغوب، وهو توحيد الأقطار المسلمة تحت رآية خليفة مسلم واحد. ولكن في باطنه، وجوهره، وحقيقته، كان أطماعاً اقتصادية بحتة، من قبل الوالي العثماني على مصر محمد علي باشا.
ولم يكن للخليفة العثماني سلطان كبير عليه في الحقيقة، فقد كانت الدولة العثمانية في أواخر سنينها ينخر فيها الضعف، والتفكك، والخيانة من بعض أبنائها، وعدم سلطة الخليفة في إسطنبول على الولاة إلا كتسمية فقط.
لذلك وعندما أرسل وفوده لدخول السودان ،كان أول من قابلهم الشايقية. وكانت في ذلك الوقت عبارة عن مملكة عسكرية تضم عدداً كبيراً من قبائل السودان المختلفة ، وهو الحال في الممالك السودانية المتناثرة في تلك الفترة الحديثة من تاريخ السودان.
فلم يكن لتلك الممالك إسهام علمي، أو حضاري ملموس، وإنما حكم عسكري! بمنطلق القوة، والنفوذ، والتنافس، للسيطرة على مناطق بعضهم البعض فقط.
تحاور وفد المستعمر حينها مع ملوك الشايقية، ومن منطلق إسلامهم قالوا: لا مانع من الانضمام للخلافة الإسلامية، أما ترك سلاحهم فلن (يتركوه). وهذا ما عجل بالمعارك التاريخية؛ والتي دارت بين: الجيش العثماني بالأسلحة النارية الحديثة ،والمدافع، والخبراء العسكريين الأجانب، أمثال ضابط البحرية الأمريكي( جورج ب. انجلش)، و جيش الشايقية، الذي اتصف بالشجاعة السودانية الفطرية . وتسلح بالرماح، والسيوف، والدروع التقليدية.
تجلت الشخصية السودانية ذات الأصل الواحد، والدم الواحد في هذه المعارك؛ والتي شهد لهم فيها العدو قبل الحليف!.
حيث تماثلت فيها بسالة الأحفاد ببسالة الأجداد، إلا أن كثرة العدد، وتفوق المستعمر في الآلات العسكرية، غلب هذه الشجاعة، فنكلوا بهؤلاء الشرفاء المدافعين عن أرضهم وشرفهم.
ثم عقدوا معهم معاهدة يتبعون فيها بالولاء، ويدفعون الضرائب للخليفة العثماني وواليه على مصر، وتنازل هو أيضاً عن جمع أسلحتهم. مقابل تعاونهم في تأمين الحكم الجديد في المنطقة.
ونذكر في هذا المقام أيضاً محاولة الملك شاويش، آخر مقاوم منهم عندما عقد تحالف واستنصار مع الجعليين بقيادة ملكهم المك نمر. وسار إلى الحلفايا أيضا بجيشه إلى العبدلاب في محاولة أخرى لعقد تحالف عسكري معهم، إلا أن المحاولتين قوبلتا بالرفض، تصفية لخصومات قديمة بينهم، مما اضطره في نهاية المطاف إلى الانضمام للمعاهدة السابقة بعد توسط أحد كبار الشيوخ الدينيين، المسموع رأيهم في ذلك الوقت.وهو الشيخ الفقيه محمد صالح العراقي.
و نذكر بكل فخر أنه رغم الهزائم والتي كان سببها التفوق العسكري للجيش الغازي، وأيضاً عدم تعاون الممالك السودانية الأخرى ، تصفية لخلافاتهم وخصوماتهم الضيقة
والتي كانت سببا في احتلال السودان مرتين في نهاية المطاف.
إلا أنهم وفي أول فرصة لتحرير الأرض السودانية المقدسة بالنسبة لهم . انضموا مباشرة إلى الثورة المهدية، تحريراً للأرض، وانتقاماً مستحقاً من الغريب الغازي.