ننتقل الآن إلى مرحلة أخرى من مراحل استكمال حملة إسماعيل باشا لاحتلال السودان وضمه لرقعة الدولة العثمانية، وصولا إلى شندي، المملكة السودانية العسكرية الثانية، بإمكانياتها التي لا تقارن مع إمكانيات الغازي الجديد، وحكمة قيادتها المتمثلة في المك نمر في ابتداره التحاور للتوصل لصيغة تجنب خسارة الدماء مع فرق الإمكانيات الكبير بين عتاده وعتاد القوة الغازية.
إلا أنه وفي خضم النقاش الدائر بين القيادتين، لم يتقبل إسماعيل باشا عدم توافق المك نمر على جميع البنود التي كان ينوي الاتفاق معه عليها، خصوصا أن الكرامة السودانية لا تقبل التسليم الكامل للعدو دون أخذ الاحتياطات اللازمة التي تحفظ الكرامة وعزة النفس، فما كان من إسماعيل باشا بعد أن رأى هذه الأنفة إلا أن شعر بإحباط شديد، لعلمه صعوبة فرض جميع املاءاته عسكريا على هؤلاء القوم السودانيون الذين جرب بأس بعضهم في معاركه مع الشايقية، فما كان منه إلا أن رمى غليونه في وجه المك نمر، فما كان من المك نمر الا أن هم باستلال سيفه لكن المك جاويش لكزه وتحدث معه بلغة البشاريين أن يكون الانتقام فيما بعد أقوى وأكبر، وهذا ما تم.
فلم يمر هذا المشهد مرور الكرام، فبعد إتمام الضيافة الكاملة وذبح الولائم وإطعام إسماعيل باشا وجنوده، تم محاصرتهم جميعا وحرقهم بإبادة شبه كاملة، إلا قلة ممن نجى منهم، لتشوي لحومهم في نار الكرامة السودانية شيا في نهاية مأساوية لهذه الحملة، التي جنت على نفسها بشيء اعتاد إسماعيل باشا والحكام الاتراك فعله على مع زعماء الأقطار التي كانت تحت سلطانهم بشكل متكرر، إلا أن جلمود الشخصية السودانية كان أنفا وصلدا تحطمت عنده هذه الغطرسة التي كان السودان أول قطر يفاجئ الغازي بعدم تقبلها وجعلها نقطة اللارجعة.
ونذكر في هذا المقام أيضا النموذج المشرف الممثل لأنفة واعتزاز الدم السوداني الواحد بين هذه الممالك السودانية، متمثلة في رد محمد ود عدلان، وزير الملك بادى السادس، آخر ملوك مملكة سنار أو الفونج، حيث كتب في مطلع رده على القوة الغازية التي طالبته بالتسليم ما أتى بعض من نصه:
“لا يغرنك انتصارك على الجعليين والشايقية، فنحن الملوك وهم الرعية، أما بلغك أن سنار محروسة محمية بصوارم وقواطع هندية، وخيول جرد أدهميه، ورجال صابرين على القتال بكرة وعشية”.
نرى من كل ذلك أن التسليم والتخاذل لم يكن أبدا جزءا من الخيارات ولا التفكير ولا من المسلمات التي يمكن أن تقبل بها الشخصية السودانية، في مناطق السودان المختلفة، خصوصا أن جميع هذه الممالك العسكرية الحديثة، هي سليلة وخليفة الأجداد مؤسسي الحضارة القديمة، التي أبهرت العالم القديم بعلومها وقوتها وريادتها وحضارتها المتفردة، بمسمياتها المختلفة، تاسيتي، وكوش، واثيوبيا(والتي تعني أصحاب الوجوه السمراء)، ومروي، وكرمة، وإلى ممالكها الأخيرة في العصور الوسطى مملكة نوباتيا ومملكة المقرة ومملكة علوه هذه الممالك النوبية السودانية الخالصة التي كانت تمتد حدودها من اسوان شمالا حتى سنار جنوبا، هؤلاء هم شعبها، وهؤلاء سلالة مجدها.
تمتد الحضارة، وتتوارث الجينات والصفات النبيلة، أبا عن جد عن جد، في تواصل مستمر، يستمر ببقاء هذا الانسان في هذه الأرض التي هو منها وهي منه، ولنا أسوة تاريخية حسنة في خاليوت بن بعانخي، أحد أشهر ملوك الأسرة ال25 الذي امتد حكمه ليشمل جميع مناطق مصر، حيث جاء في مسلته كلمات خالدات يوجهها إلينا وإلى جميع الأجيال التي تأتي من بعده ومن بعدنا يقول فيها:
“إنني لا أكذب، لا أعتدي على ملكية غيري، لا أرتكب الأخطاء، قلبي ينفطر لمعاناة الفقراء، لا أقتل شخصا دون جرم يستحق القتل، لا أقبل العطايا لأي عمل غير بشري، لا أدفع بخادم استجارني لصاحبه، لا أعاشر امرأة متزوجة، لا أنطق بحكم دون سند، لا أنصب الشراك للطيور المقدسة، لا أقتل حيوانا مقدسا، لا أعتدي على ممتلكات المعبد (الدولة)، أقدم العطايا للمعبد، أقدم الخبز للجياع، الماء للعطشى، الملبس للعرايا، أفعل هذا في الحياة الدنيا، أسير في طريق الخالق، أبتعد عن كل ما يغضب المعبود، أرسم الطريق للأحفاد الذين يأتون من بعدي في هذه الدنيا، ولمن يأتون بعدهم”.
انظروا كم هي كلمات عظيمة، وصية خالدة للأحفاد من الملك خاليوت بن بعانخي، تمت كتابة هذه المسلة عام 600ق.م، في شكل مخطوطة عامودية، تم اكتشافها عام 1920م، في معبد آمون بجبل البركل، ويعد مضمون هذه المخطوطة أعظم وصية أخلاقية قبل الكتب السماوية المعروفة، تمثل تطورا حضاريا كبيرا للإنسان النوبي القديم، تتجلى إلى يومنا هذا في الشخصية السودانية، المعروفة بعزة النفس، والكرامة، والاعتزاز بالأرض.