التاريخ ملئ بالقصص التي تستحق أن تُروى، قصص إعتلاها النسيان، ومرت عليها الأزمان، عن أحداث مفجعة مازالت محفورة في أذهان أصحابها، وجراح ناتئة مافتئت تنزف. وقد آن لنا الأوان أن ننقب باحثين عن تلك القصص،،،،وهنا، يأتي دور السينما لتبحر في غيابات الماضي وتنقل لنا ذلك الجانب المظلم من الواقع.
Quo Vadis, Aida? 2020
Director: Jasmila Žbanić.
Country: Bosnia and Herzegovina
تعرف الإبادة الجماعية بأنها أسوء أشكال الجريمة ضد الأنسانية والتي تهدف إلى قتل وتدمير وأستئصال طائفة من البشر بناء على أساس ديني أو عرقي أو سياسي، وتدمير آثارهم البيولوجية والأجتماعية.
خلفية تاريخية:
في تسعينات القرن المنصرم، وفي ذروة حرب البلقان التي نشأت عندما أعلنت البوسنة والهرسك إستقلالها عن يوغسلافيا عام 1992، والتي أعقبها حرباً عرقية بين الصرب ومسلمي البوشناق. حدثت واحدة من أكثر مجازر الإبادة والتطهير العرقي دموية ووحشية منذ الحرب العالمية الثانية، في مدينة “سربرنيتسا” وذلك بعد إعلانها من قبل الأمم المتحدة، كمنطقة آمنة خالية من أى عمل عسكرى أو أسلحة، والتي راح ضحيتها أكثر من 8000 رجل وصبي من مسلمي البوسنة، على يد الجنرال الصربي الملقب ب”جزار البلقان” ” راتكو ملاديتش” في يوليو من العام 1995.
“إلى أين تذهبين ياعايدة” هو دراما إنسانية قوية، تأخذنا في رحلة عبر التاريخ لنكون شاهدين على واحدة من أكثر المذابح وحشية، والتي إختار المجتمع الدولي أن يغض الطرف عنها،، إلى لحظات ماقبل مذبحة سربرنيتسا.
يسرد الفيلم هذه الوقائع من خلال شخصية “عايدة” معلمة تعمل كمترجمة لدى قوات حفظ السلام الدولية، تجد نفسها في إختبار مابين عملها ومابين إنقاذ عائلتها من المصير المحتوم.
تتابع الكاميرا مسارات عايدة وهي تتحرك جيئةََ وذهاباََ عبر قاعدة الأمم المتحدة وهي تحاول بشكل محموم إنقاذ عائلتها، بينما تتعامل في نفس الوقت مع الكارثة الأوسع وترى بنفسها فشل صانعي السلام في منع وقوعها.
عايدة وبحكم موقعها، عرفت مسبقاً ماستئول إليه الأحداث، لذلك تحول كل تركيزها لحماية أسرتها، فنراها تقترح إرسال زوجها كممثل للمدنيين في المفاوضات حتى يتسنى لها إدخال عائلتها الى القاعدة، وعندما تزداد وتيرة الأحداث نراها تقضي اللحظات مندفعة متوسلة وهي تحاول إدراج عائلتها في قائمة الأمم المتحدة. وجهها يعكس الذعر المكبوت بداخلها وهي تحارب موجة الجمود البيروقراطي الذي سيبتلعهم جميعاً في نهاية المطاف.
“الجميع يلعبون دور الحمقى وأنا على أن أتعقل أمام هذا الوحش المجنون” هذه الجملة التي قالها قائد قوات الأمم المتحدة،الكولونيل “كاريمنز” في وصف الجنرال الصربي “راتكو ملاديتش”،جسدت بشكل متقن اللآمبالاة والسلبية التي واجهت بها الأمم المتحدة هذه الأزمة الإنسانية، فالكولونيل”كاريمنز” كان هو الواجهة التي إستخدمتها المخرجة “جاسميلا” لتعكس لنا تقاعس وضعف إدارته في التعامل مع الأزمة، وقد ظهر ذلك بشكل جلي في مشهد ذكي للكولونيل وهو يشعل السجارة للجنرال “ملاديتش” أثناء جولة المفاوضات الأخيرة والتي لم تكن إلا مسرحية هزلية في محاولة منع مشهد دموي قد خطط له مسبقاً.
نجحت “جاسميلا” في جعل المشاهد يعيش أجواء التوتر والرعب التي سيطرت على الضحايا في الساعات التي سبقت المجزرة، نرى عجزهم وهم يحاولون بكل الطرق الهروب من مصيرهم، ونرى الوحشية والبطش واللاآدمية في عيون الجنود الصرب.ومع تصاعد الأحداث تتصاعد وتيرة التوتر والضغط النفسي. وعندما تصل الأحداث الى ذروتها، تعطينا “جاسميلا” بعض اللحظات لإلتقاط أنفاسنا قبل أن تعود وترفع من حدة التوتر والذعر حتى وصولنا إلى النتيجة المروعة.
وبالرغم من أن الفيلم يوثق لواحدة من أبشع المجازر، إلا أن “جاسميلا” إبتعدت بشكل كلي عن عرض المشاهد الدموية والأساليب الوحشية التي إستخدمها الصرب لتصفية مسلمي البوسنة، وركزت عل نقل البعد الدرامي لهذه المأساة وتأثيرها على أناس كانوا فيما مضى جيراناً وأضحوا أعداء يشهرون السلاح في وجه بعضهم البعض.
يختتم الفيلم برسالة حب للشعب البوسني الذي نجح في بناء تعايش سلمي وصنع مستقبل مشترك، رغم بشاعة الماضي وقسوته.
نجح فيلم “Que vadis,Aida” في حجز مقعده ضمن الخمسة مرشحين للأوسكار في فئة أفضل أجنبي.