كأنما أقسم النيل أن ( يقالد) الشعب السوداني ويرتمي بين أحضانه رافضاً كل عبارات الكف عن المصافحة ، فأبى بكل عنفوانه إلا وأن يدخل القرى والحضر والمزارع والمساكن والمحال ضارباً بأمواجه العاتية غير آبه بما حل بشعبنا من مصائب ظلت تضرب فيه كلما حاول النهوض.
شعب ظل (متاريس) لكل أمواج وكوارث الطبيعة واللا طبيعة .. قاوم الممكن ، ولم يستسلم للا ممكن ..
ولأن عام 2020 م كان متفرداً في كل ما جاء به وجاءت به أقدار الله .. فقد كان فيضان هذا العام أيضا مختلفا في كل غضبه ، ويوما بعد يوم تزداد غضبة النيل فيرمي بكل عنفوانه ليزيد الفقراء فقراً والمشردين تشرداً ونفورا ..
جاء فيضان نهر النيل لهذا العام مختلفاً عن 100 عام مضت ، كان فيها الخريف يأتي ونتجاوزه بسلام ، تارة بالتبرير بأنه كان مفاجئاً وتارة أخرى بأنه كان تحت السيطرة.
لم تفلح كل التبريرات هذا العام لتضطر الدولة عن إعلان البلاد كمنطقة كوارث لثلاثة أشهر تبقى فيها كل الاحتمالات مفتوحة أمام الشعب المكلوم .
100 عام لم تشهد البلاد فيضاناً للنيل بهذا المستوى وهذه الاضرار التي لم يتم حصرها حتى اللحظة بشكل دقيق ، لكن تبقى الكارثة كبيرة في حجمها وفقاً لاحصاءات أولية تجاوز عدد الذين فقدوا المأوى ما يزيد على نصف مليون أسرة ، كان أشدها ضرراً شمالي الخرطوم في مناطق ود رملي واللاماب وفي شرق النيل بأحياء البطاحين والعيلفون.
هذه الأرقام قابلة للزيادة في ظل تواصل هطول الأمطار على الهضبة الاثيوبية مما يزيد من احتمالية زيادة مناسيب النيل وكذلك هطول أمطار في الخرطوم وبعض ولايات السودان مما يفاقم حجم الضرر ..
كل الذي يحتاجه المنكوبون هو المأوى على الأقل في هذه المرحلة .. بعيداً عن مناطقهم التي تضررت و أصبح الباقي منها آيلاً للسقوط .. كما أن تفشي الأمراض أصبح أمراً وارداً مع حدوث إصابات كثيرة بلدغات العقارب والثعابين .. لذا كان توفير الأمصال لزاماً على وزارة الصحة في مناطق الضرر..
جسور جوية تم تسييرها الى السودان من دول شتى وإن كانت في معظمها لا تغطي ربع الضرر .. بل حتى معظمها يتسرب الى السوق ليصبح سلعةً للبيع .. في ظل ضعف الرقابة الداخلية لعمليات توزيع تلك المساعدات ..
في العام ١٩٨٨م لما بلغ الفيضان أشده كانت الولاية الشمالية في اسوأ حالاتها حيث غرق البشر والدواب والحجر .. وبجهد شعبي و دعم من أبناء الولاية في الخارج من المغتربين تم احتواء وتخفيف الضرر على المواطن في تلك الولاية بتشييد آلاف الخيم لايواء المشردين الذين تقطعت بهم السبل .. ومن ثم تم توزيع سبل العيش لهم من مواد غذائية ونحوه حتى انجلت الأزمة..
الكارثة التي تحل بالخرطوم اليوم ستنجلي ان شاءالله ولكنها تحتاج الى تكاتف جهود وعمل حقيقي وليس تنظير واستعراض على الإعلام كما نشاهد ذلك من المسؤولين الذين تفرغوا للزيارات وإصدار بيانات التحذير والنوم بملء العين ، بينما المواطن يتجرع سم الغرق كلما هطلت أمطار على رأسه نظر الى السماء مناجياً رب السماء بالعون والمدد..
الغريب في فيضان هذا العام هو أن الغرق والتأثر يتجه من الجنوب إلى الشمال .. بينما في كل المواسم التي ضربت السودان بالفيضان كان فيها التأثر عكسياً بارتداد المياه من السد العالي الى داخل السودان فتتأثر الولايات الشمالية وترتفع المناسيب في الخرطوم والجزيرة.. غير أنها لم تكن بالكاد تصل ١٦ متراً كأعلى مستوى في ارتفاعها في الخرطوم..
الخرطوم تغرق..
هذا هو الأمر الواقع الان .. كيف غرقت وكيف حدث ذلك .. تبقى كل الفرضيات مفتوحة وممكنة .. بالطبيعة أو باللا طبيعة .. بالممكن واللا ممكن.. لتبقى القضية الان هي .. ثم ماذا وكيف ستتجاوز البلاد هذه المحنة .. خاصةً في ظل تردي الوضع الاقتصادي في البلاد ..
الأمر يحتاج الى تضافر جهود كبيرة ومساندة المجتمع الدولي ومنظماته من المجتمع المدني التي يبدو انها الى الآن “تتفرج”..
ويبقى السؤال .. الا يمكن ان نجد حلاً ونضع حداً للفيضان الذي يغمرنا و” يستوطي حيطتنا” كما يقول المصريون بحلول علمية ناجعة وناجحة !!
مثل شق وفتح ترع وقنوات للمياه تجري في ” خلا الشمالية ونهر النيل و امدرمان ” يمكن أن تكون ملاذاً للزراع والصناع وحتى البهائم والضالين الطريق!!
وتتفرع هذه الترع والقنوات من النيل ويتم فتحها في هكذا مواسم لتصبح تصريفاً لضغط المنسوب على النيل الرئيسي .. بدلاً من أن نكون تحت رحمة من يمتلكون السدود في الدول المجاورة.. وهاهم يكتفون بكم شوال وكم خيمة “رسلوها لينا وعملوا رايحين”..
في زيارة لفرنسا شاهدت كل شيء بدقة وبعض التفاصيل وكنت ارفع حاجب الدهشة لعظمة تلك الانجازات من بنى تحتية وترتيب منظومات الحياة والمقومات الهائلة والعجيبة جداً في تلك الدولة ..
لكن أكثر ما رفع مستوى الاحترام والتقدير والاستغراب عندي.. هو نهر السان .. لما رأيته ظننت أنه “حوض سباحة كبير شوية”
النهر لمن شاهدوه مرصوف ببلاط من الاسفل ..
استفسرت مرافقي عن ذلك فروى لي حكاية النهر وقال أن النهر كان يفيض فتتأثر منه العاصمة ويتسبب في تلف بسيط للمجاورين له من سكان ومحال.. وليس غرق كما هو حاصل عندنا بالطبع..
فقال محدثي أنهم اهتدوا لفكرة .. حيث قاموا بشق نهر متفرع منه وقاموا برصف أرضيات النهر الجديد وفتحوا الماء مغيرين مجرى النهر غير ابهين بقول الشاعر (المتابعنوا نحنا وماااامنين بيهو) “وهل يملك النهر تغييراً لمجراه”..
الشاهد في الأمر أنهم حولوا مجرى النهر تماماً وجرى الماء فوق النهر المرصوف ورصفوا النهر القديم و أعادوا فتحه فأصبح النهر يجري لفرعين وانتهت تلك الازمة وانتجوا مولدات ضخمة جداً للكهرباء والصناعات المتحولة وغيرها،..
ليه ما نعمل كده،!!
بالرجوع إلى واقعنا المرير..
(سينتهي الفيضان والناس حترجع للسخف وناس الكلاكلة حيتنمروا على غرق ناس العيلفون ونرجع ناكل تبش بالشطة وننتظر الفيضان الجاي ونقول الحمدلله انو ما غرقنا ويصبح هذا اسمى غاياتنا)..
بالعربي الفصيح ..
شاهدت خطاباً مسرباً للوزير مدني عباس يتحدث عن تبرعه لوزراة المالية بحافز ١٠.٠٠٠ دولار – حافز اجتماع منحته اياه مجلس ادارة كنانة .. خلي التبرع .. اجتماع شنو اللي بـ١٠.٠٠٠ دولار يامدني!؟؟
وزيرة المالية تعتذر للجيش عن تأخر رواتبهم لشهر..!! هل تعلم السيدة الوزيرة أن بعض القطاعات ومنها الصحية لم يصرفوا رواتب ٣ شهور؟!
صديقي الكاتب الساخر طلعت سيد قال : أن الفيضان تقف ورائه ” الدولة العميقة”..