يبدو بوضوح إنتقال السودان بين مراحل تاريخية مهمة منذ وقت مبكر، وتاريخه الذي يرجع إلى ما قبل الميلاد إبتداءً من إنسان سنجة الأول ثم الممالك الكوشية، والنوبية مرورا بالسلطنات الإسلامية، ووصولاً إلى الحكم العثماني وما بعده فكل مرحلة على حدى أدت إلى تكوين اللبنات الأساسية في وقتها، وساهمت في تشكيل وتكوين السودان ثقافياً، وحضارياً، وجغرافيا ولكن في هذه الجزئية سنُسلط الضوء على عهد التركية في السودان(الحكم العثماني) ، وسنرى كيف ساهمت تلك الفترة واضعة بصمتها بجدارة في تاريخ السودان.
حمد علي باشا و أطماعه تجاه السودان :-
بعد نجاح محمد علي بالإنفراد بحكم مصر وانتزاعها من المماليك، أراد أن يبسط يده على تلك المنطقة وامتد نفوذه إلى السودان ساعياً باطماعه بضمه تحت جناحيه.. كل هذا في سبيل بناء إمبراطورية عظمى على نمط الامبراطوريات الأوربية لذا كان السودان بمثابة تأمين لحدود مصر من ناحية الجنوب، وكذلك قوة عسكرية شجاعة لاسيما أن السودان اشتهر بالرجال الأقوياء، والعديد من الثروات الضخمة أمثال الذهب، والماشية والإنتاج الوفير من الحبوب.
حاول محمد علي جاهدا فتح السودان وغزوه بشتى الطرق في حملات عسكرية متتالية، فحاول غزو الجزء الشمالي للسودان في يوليو ١٨٢٠ حيث تولى قيادة الجيش الأول إسماعيل باشا الإبن الثالث لمحمد علي، ومعه في القيادة الضابط الألباني عابدين بك وضم الجيش ٤٥٠٠ من الجنود فيهم الأتراك والأرناؤوط والمغاربة (لوحظ عدم وجود أي مصري بين الجنود، إذ كان الجيش من المرتزقة الذين تعود الأتراك أن يجندوهم) وتسلّحوا بالبنادق و٢٤ مدفعاً. وجد حكام شمال السودان أنفسهم ضعافا أمام الحملة نظرا لتفرقهم إلى ممالك صغيرة، فسلموا الأمر إلى إسماعيل باشا.
«أما الجزية فنؤديها بلا حرب، أما خيولنا وسلاحنا فما نسلمها إلا بالحرب»
فأرسل إسماعيل باشا مئة فارس لاستطلاع أمرهم، فأحاط بهم فرسان الشايقية و انقضوا عليهم، فقتلوا منهم ٧٥ رجلاً و رجع الباقون لإسماعيل باشا فعزم على حربهم.. و في عصر ٤ نوفمبر تقدم إسماعيل باشا بجيشه – الذي يحمل الأسلحة النارية – بمحاذاة الضفة الغربية للنيل، حتى وصل مشارف كورتي و هناك التقى بجيوش الشايقية المجتمعة بـ”حلة أم بقر” و كانت تحمل الأسلحة البيضاء البسيطة (الحراب و السيوف) ،و في صفوفهم كانت هناك فتاة صغيرة تدعى مهيرة بت عبود (بنت الشيخ عبود شيخ بادية السواراب أحد فروع الشايقية) تجلس على هودج فوق جمل مزدان بالحلي، فكانت مهيرة تلهب حماس الشايقية للقتال بأشعارها، و قد أعطت إشارة الهجوم لهم فيما اصطف الشايقية تحت قيادة الملك جاويش، و الملك صبير، و الملك عمدة، و عدة زعماء آخرين وبعد عراك طويل دار بين الجيشين في المعركة الشهيرة معركة (كورتي) و في نهاية المطاف ما كان من السلاح الناري إلا أن يتفوق على السيوف والرماح، فحصد الجيش التركي من جيوش الشايقية أرواحا كثيرة، قدرت ب(٦٠٠-٨٠٠) رجل، أما الجيش التركي فلم يقتل منهم غير ٣٠ رجلاً.
لا يغرنك انتصارك على الجعليين والشايقية، فنحن هنا الملوك وهم الرعية. أما علمت بأن سنار محروسة محمية، بصوارم قواطع هندية، وجياد جرد أدهمية، ورجال صابرين على القتال بكرة وعشية.
كان ظاهراً أن ود عدلان لم يكن يعيش واقع عصره إذ أن جواسيسه أخبروه أن الجيش قوامه ١٨٦ ألف محارب (نلاحظ أن الجيش المتحرك من مصر كان ٤٥٠٠ جندي) حتى انه أخذ يطلب العون من الأولياء والصالحين بدلا من تجنيد الجند من القبائل، ومحالفة القبائل الأخرى ليستعد لمقابلة الجيش. تم اغتيال ود عدلان بسبب مشاكله مع أبناء عمومته قبل أن يصل إلى اتفاق مع الفور بشأن توحيد الكلمة لمحاربة الغازي. بدأ الأرباب دفع الله الوزير الجديد للسلطنة بالمفاوضات في ود مدني مع إسماعيل ونقل إليه رغبة السلطنة في الخضوع؛ بعد أن أدرك أنه لا فائدة ترجى من المقاومة. لما اقترب إسماعيل من سنار خرج إليه بادي السادس (الذي كان شابا في الخامسة والعشرين) مبايعا وتنازل عن سلطانه لخليفة المسلمين في ١٣ يونيو ١٨٢١ . هكذا انتهت سلطنة الفونج التي عاشت في ربوع السودان من عام ١٥٠٤ – ١٨٢١ م، بدخول الجيش في اليوم التالي دخول الغزاة المنتصرين، وهم يقصفون البر ومن خلفهم سار السلطان السابق بعد أن عينه إسماعيل شيخا على سنار ليجمع الضرائب ويسلمها للإدارة التركية المصرية، بهذا بدأت مرحلة جديدة خضعت فيها هذه البلاد الواسعة لحكم أجنبي لأول مرة.