لا خلاف أن ما أحدثه الحكم المركزي في السودان، في منتصف القرن التاسع عشر يعتبر نقلة تاريخية. فلأول مرة منذ سقوط علوة تتوحد البلاد تحت حكومة مركزية قوية، ويستَتِب الأمن في أرجائه.. فمن غوغائية وهمجية الحكم اللا مركزي إلى إستقرارية الحكم المركزي الذي نهض بالإقتصاد على أسس متينة، ونشطت الأنظمة الزراعية و خصوصاً التجارية على الصعيدين الداخلي والخارجي، ولعل إختفاء الحروب و الغارات القبلية في ذلك الوقت ساعد على هذا التطور. كما يُعد خورشيد وأبو ودان أعظم حكمدارين حكما السودان.
إسهامات خورشيد وأبو ودان في إستقرار الأوضاع :-
بالتعقيب على جوهر الحكم المركزي نجد أن سياسة خورشيد وأبو ودان متقاربة جداً، وقد عملا لأن يكونا وجهان لعملة واحدة.. فسارا على نفس النهج جاهدين بإصلاح ما أفسده الدفتردار وعثمان بك. كان الحكمدار الأول خورشيد باشا أحسن الولاة سيرة وأطولهم عهداً، وبذل قصارى جهده في تعمير البلاد لاسيما في تأسيس العاصمة الخرطوم فعمل على تشيد مباني الحكومة، القصر، المديرية، الجامع وثكنات الجيش بالطوب الأحمر، وتشجيع الأهالي على بناء دورهم باللبن، مع مرور الوقت أخذت الخرطوم تنمو وتزدهر فيها التجارة، وبلغ عدد سكانها في عهد محمد علي أكثر من ثلاثين ألفاً.
وأما من جانب النشاط الزراعي والحيواني فقد كان إقتصاد السودان قبل الفتح التركي قائما على الزراعة المطرية والنيلية، بالطرق البدائية وعلى الرعي والتجارة بالمقايضة، ولكن بعد تولي خورشيد الحكمدارية عمل على تحسين الأوضاع وإستمالة الأهالي، وعدل الضرائب وشرع في تنمية الإنتاج الإقتصادي. ولإستغلال مياه الفيضان في منطقة الجعليين والجزيرة أدخل وسائل جديدة للري كالساقية، والشادوف وشجع الناس على الإستقرار على ضفاف النيل لإستعمال وسائل الري الحديثة، وجلب بفلاحين من مصر ليعلموا الناس طرق الزراعة الجديدة. إضافة لإدخال أصناف جديدة من الفواكه. ولتحسين سلالة الضأن استورد من مصر الكباش الممتازة. كان هذا من جانب خورشيد باشا أما من جانب أحمد أبو ودان، فإنه لم ينحرف عن مسار خورشيد بل جاء ليتمم عليه إضافة إلى أنه حبب فيه الأمراء ورؤساء القبائل من السودانيين، ومن إسهاماته أنه واصل في تعمير مدينة الخرطوم وتنظيم المديريات وجلب من مصر الكثير من الحيوانات المستأنسة والنباتات وبذورها، و نشطت الصناعة في الخرطوم واستكثر من السفن الأميرية في النيل وزاد من طرق المواصلات فإزدهرت التجارة؛ وكانت أهم الصادرات في ذلك الوقت العاج، وريش النعام، والصمغ العربي، وشيئاً فشيئاً أصبحت الخرطوم ملتقى المتاجر.
زيارة محمد علي باشا إلى السودان :-
في أكتوبر ١٨٣٨ زار محمد علي باشا السودان وكانت هذه الزيارة في عهد الحكمدار أبو ودان مقصدها الأساسي البحث عن مناجم الذهب؛ حيث أن المقادير التي كانت ترسل إليه من جبال فازوغلي لم تشبع رغبته. وصحبه في رحلته هذه طائفة من المهندسين والباحثين منهم المسيو ليفر، والمسيو دارنو، ولامبير. لكن عندما جاء بنفسه اقتنع بأن المناجم لم تكن غنية كما يتمنى، وفي وقت لاحق بُذلت محاولات أخرى للبحث عن الرصاص والفحم ولكنها أخفقت.
الإدارة التركية من منظور قضائي وتأسيسها للجيش :-
قبل مجيء الحكم التركي لم تكن المحاكم المدنية والعسكرية موجودة في السودان، ولم يكن هناك نظام قضائي موحد فقط كان يقوم على( العرف والشرع الإسلامي) وفي عهد محمد علي أُنشئت محاكم مدنية في المدن الكبيرة أطلق عليها اسم المجالس المحلية، وكان لكل منها رئيس وثمانية أعضاء كما أنشئت العديد من المجالس للنظر في قضايا المواطنين علاوة على إهتمام الإدارة التركية بالقضاء الشرعي وتعينها لكل مديرية قاضياث ومفتي، وعلى رأس القضاء الشرعي قاضي العموم ومقره الخرطوم.
في عام ١٨٤٣ توفي أبو ودان بشكل مفاجئ- كما أسلفنا سابقا- تاركاً ورائه بصمة جيدة في الإدارة، وهو الآن مدفون في القبة الشرقية من قباب الأتراك الموجودة في شارع البلدية أحد شوارع مدينة الخرطوم.
كانت إسهامات خورشيد وأبو ودان إنطلاقة فعلية في إرساء قواعد الحكم التركي، وإزدهار الإقتصاد السوداني امتدت لآواخر عهد الأتراك في السودان، عوضاً عن ما ذاقه السودانيين منذ بداية وضع أقدامهم في السودان من وحشية وإرهاب وغيره. وبالرغم من هذه الإيجابيات يظل الإستعمار “إستعماراً” مهما بلغت محاسنه.