صفحات من تاريخ المهدية
(٢)
بعد هزيمة أبي السعود وانتصار المهدي وجنوده بموقعة الجزيرة أبا؛ اهتزت دوائر الخرطوم وطفِقت الحكومة بالأخذ بثورة المهدي على محمل الجد، كما بدأت شهرة المهدي تنتشر كالنار في الهشيم.
من أبا إلى قدير :-
احتراساً من انتقام الحكومة رجع المهدي إلى جبال النوبة في جنوب كردفان وترك الأخوين عامر وأحمد المكاشفي على أقليم الجزيرة، في انسحاب شبهه بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى يثرب. جاء ذلك بعد أن أَُصدر أمر من القاهرة لمحمد سعيد باشا حاكم عموم غرب السودان بالتعاون مع حامية الكوة للقضاء على المهدي، لأنه بات يشكل خطراً على الحكومة. وفي الطريق إلى قدير لقيَ المهدي الكثير من التأييد من القبائل كقبيلتي كنانة ودغيم، وقد حاولت الحكومة اللحاق به لكنها لم تستطع.. وعندما وصل إلى قدير استقبله الناس هناك بحفاوة وترحاب، وهكذا أصبح المهدي بعيداً عن بطش الحكومة الأمر الذي مكنه من تنظيم اتباعه وتدريبهم على الحرب.
حملة راشد بك أيمن :-
لما حل فصل الجفاف، جهز راشد بك أيمن مدير فشودة جيشاً من ألف جندي، وخرج به للقضاء على المهدي بالرغم من أن الحكمدار أمره بالتريث حتى تعد الحكومة حملة كبيرة تضمن بها النصر.
وضع راشد خطته لمباغتة المهدي حيث سار سيراً حثيثاً حتى وصل إلى مشارف قدير، وكان المهدي قد علم بقدوم الجيش من إمرأه تدعى رابحة الكنانية هذه السمراء الباسلة التي تسللت خلسة من منزلها في جنح الظلام وجرت (جرية اِمرأة واحدة) من جبل فنقر حتى قدير. وصلت لمعسكر الإمام المهدي قبيل صلاة الفجر. كانت متعبة حتى الموت. قالت للإمام المهدي: (الكفرة مرقوا من فنقر وسيصلونكم هنا مع صلاة الصبح). وفاضت روحها إلى بارئها كأول اِمرأة استشهدت في الثورة المهدية. وفي التاسع من ديسمبر ١٨٨١ دارت الموقعة بين الفريقين، فدارت الدائرة على جيش راشد، واستولى المهدي على أسلحته وذخيرته.
ذاع نبأ النصر، وذاع معه صيت المهدي، فأقبل عليه الناس من كل صوب يبايعونه وينخرطون في جيشه؛ ومن جهة أخرى تلاشت هيبة الحكومة. وأدرك رؤوف باشا حرج الموقف فطلب نجدة سريعة من مصر لكنه لم يتلقى الإستجابة وفي مارس ١٨٨٢ عزل رؤوف من منصبه وتم تعيين عبد القادر حلمي وزيراً لشؤون السودان وحكمداراً عليه.
حملة الشلالي باشا :-
تولى جيقلر باشا الذي كان غردون قد عينه مفتشاً عاماً للتلغراف، فتولى تصريف الأمور قبل وصول الحكمدار عبد القادر وقرر إرسال حملة إلى قدير عقد لوائها إلى يوسف باشا الشلالي، وكان قوامها أربعة آلاف جندي وانضمت إليه في الكوة قوة من كردفان فسار محاذياً النيل حتى بلغ فشودة، ومنها اتجه غرباً إلى قدير.. وفي خضم تلك الفترة كانت الأوضاع المناخية سيئة جداً، حيث هطلت الأمطار مبكرة في ذلك العام فظل الجند يتخبطون في الأوحال أياماً، حتى وصل جند الشلالي إلى مشارف معسكر المهدي بعد ستة عشر يوماً مرهقة عبر خلالها المستنقعات والأوحال، وكانوا في حالة من الأعياء لا تكاد توصف وسرعان ما أخلد جنوده إلى النوم ليصبحوا على صيحات جنود المهدي الذين أطبقوا عليهم من كل جانب، ودارت معركة حامية انتصر فيها المهدي وقتل فيها الشلالي باشا.
بهذا، وبعد ثلاث معارك خاضها المهدي وتوج فيها بالنصر، بدأت الجماهير بالإقتناع بصدق دعوة المهدي، كما اعتبرت هذه الانتصارات كرامة من كرامات الولي الصالح والذي بدوره أدى إلى زيادة أتباع المهدي كما كثرت في أيديهم الأسلحة والذخائر، وتضعضع نفوذ الحكومة، وقرر المهدي الخروج من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم.