يعتبر العلم والتعلم والضوابط التي تحدده من النزاهة والمصداقية والأمانة إحدى أنعم الله تعالى الكثيرة التي ميز بها بني آدم عن غيرهم من المخلوقات، وقد جعل الله تعالى لنا التاريخ عبرة وحكمة نتعلم فيها من صواب وخطأ أجدادنا إلى لدن آدم عليه السلام في التجربة الحياتية التي نعيشها في هذه الحياة الدنيا الفانية، ثم سنسأل عنها يوم القيامة بموجب التكليف والذي من شروطه العقل والنية.
ولكن الشيء الغير المقبول، هو تغول فئات من الناس على فئات أخرى، وذلك عن بطرق وسبل عدة منها التزوير، والتدليس، والآلة الإعلامية لترويج الحقائق المزيفة، إضافة إلى التضييق على أصحاب الأرض، والسعي إلى محو وجودهم وارتباطهم بها عبر التضييق الاقتصادي، والتضييق الثقافي، والتهجير وأخيرا الإغراق، وهذا ما يتعرض له الشعب النوبي على وجه التحديد، الشعب الأصيل منشئ حضارات وادي النيل كمت، وتاسيتي، ونبتة، وكرمة، وعلوة، والمقرة، ونوباتيا، وغيرها.
كانت الممالك النوبية تمتد في عهودها القديمة إلى ما قبل 14.000 عام من عمر البشرية من جنوب الخرطوم، إلى أقصى شمال مصر على البحر المتوسط، وقد كانت الحضارة النوبية من أولى وأقدم وأزهى حضارات العالم القديم، فبدأ من تطور المأكل، والملبس، والحياة الإجتماعية، ونظام الحكم، والخلق الحضاري المحكوم بالمبادئ الذاتية وقانون الدولة، إضافة إلى الإزدهار الاقتصادي المبني على العلم، وتصدير هذا العلم إلى البقاع الأخرى كاليونان القديمة مثلا، والتي كان فلاسفتها ورواد علومها الأوائل يفدون إلى النوبة وينهلون من علومها ويحدثون عن شعبها ودياناتها وتطورها، وغيرهم أيضا من الشعوب الأخرى المجاورة والغير مجاورة، كل ذلك جعل هذه الرقعة من الأرض مستهدفة على مر القرون التالية لبداية الحضارة البشرية.
وكانت بداية الغزو والاستيطان الممرحل الممتد لآلاف السنين على شمال بلاد النوبة “من الدلتا إلى حدود إدفو شمال أسوان”، وخصوصا الدلتا الغنية والخصبة ذات المناخ الممتاز لزراعة شتى أنواع المحاصيل بكميات كبيرة ووافية، من قبل الهكسوس، واليونان، والليبيين، والآشوريين، والبلطميين، والهجرات الكبيرة من سكان بحر إيجة والتي جاء منها الاسم الحديث للجزء الشمالي من البلاد النوبية مصر “إيجبت”، وكذلك الفرس، والرومان الذين سبقوا العرب، ثم أخيرا العرب، في عهد سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه، وما تلته أيضا من هجرات عربية كبيرة إلى عهد قريب، ثم سيطرة المماليك عليها أيضا، ثم بعد ذلك سيطرة محمد علي على مقاليد الحكم فيها وإجلاءه للماليك عنها إلى أن صدر مرسوم جديد بتثبيت محمد علي في منصبه، فوصل هذا المرسوم الى مصر في 7 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1806.
وفي جميع تلك الفترات كان يتم استعادة حكم الجزء الشمالي من بلاد النوبة “مصر الحالية” من قبل الفراعنة النوبيين العظماء أمثال مينا، ونعرمر، وبآنخي وغيرهم على فترات متفرقة، لكن ماتلبث أن تسقط مرة أخرى في يد الغزاة وبتعاون من مستوطني الداخل التابعين عرقيا لهم.
وقد كانت هناك عدة محاولات لغزو واحتلال القسم الأوسط والجنوبي لبلاد النوبة الممتد من شمالي أسوان إلى سنار جنوب الخرطوم، إلا أنها كانت عصية على الغزاة، خصوصا وأنها تمثل المعقل الأخير لشعوب وادي النيل النوبية القديمة والأصيلة في المنطقة، فكان الدفاع عنها يتم باستماتة وبطولة قل لها نظير، وقد كانت عصية على جميع الغزاة من فرس ورومان، بل وحتى العرب المسلمين لم يتمكنوا من ذلك في محاولات الفتح الأولى لنشر الإسلام جزاهم الله عنا خير الجزاء، فبالرغم من سهولة فتح مصر على يد المسلمين في عهد سيدنا عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص رضي الله عنهما لتفرق سكانها تحت عدة أعراق أوروآسيوية ، إلا أن محاولاتهم لفتح القسم الأوسط والجنوبي من بلاد النوبة بقيادة الصحابي الجليل عبد الله بن أبي السرح لم تكلل بالنجاح، ولم يدخل الإسلام إلى النوبة الباقية الممتدة من شمال أسوان إلى جنوب سنار في السودان الحالي إلا عن طريق الدعوة والموعظة الحسنة وحسن الجوار والتعامل وليس على حد السيوف.
وقد كان جميع الفراعنة القدماء يحذرون من خطورة الغزو الآوروآسيوي ويتصدون له، وكذلك الغرب أفريقي والحبشي، حيث كانت العلاقات السياسية والعسكرية دوما متوترة مع هذه الممالك والشعوب المجاورة كما يحكي لنا التاريخ عبر الجداريات المنحوتة في المعابد الفرعونية النوبية القديمة، ومنها الجدارية الشهيرة التي تتواجد ضمن جداريات تنصيب الفرعون الجديد، يظهر فيها الفرعون النوبي بلونه الأسمر المميز، يقاتل الأقواس التسعة التي تمثل الشعوب الأوروآسيوية الغازية وقد تم نحتهم بألوان بيضاء وملامح واضحة للعيان.
نستكمل في الحلقة القادمة الاحتلال الأول لبلاد النوبة الوسطى والجنوبية ” جنوب مصر الحالية وشمال ووسط السوان الحالي” من قبل الدولة العثماني بقيادة محمد علي باشا عام 1821م ، والضياع الذي حدث بعده للأرض والإغراق المتكرر سعيا لتشتيت ومحو ثقافة وحضارة امتدت لما يفوق ال 14.000 عام، وسنستعرض كذلك مجهودات سرقة وتزوير التاريخ بالأدلة والشواهد الأثرية الباقية.