كان لتسلم الألباني الجنسية محمد علي مقاليد الحكم على مصر بمرسوم من السلطان العثماني عام 1806م، الباع الكبيرة في التدهور والتغول الذي حدث لشواهد الحضارة النوبية في العصر الحديث، حيث تمت لأول مرة في التاريخ السيطرة الكاملة على جميع بلاد النوبة الوسطى والعليا “من أسوان إلى سنار جنوب الخرطوم”، وتلى ذلك سرقة ونهب كبير للآثار والموميائات بما يقدر بعشرات الآلاف من القطع، حتى أنها كانت تباع على نواصي الطرقات والأسواق للسياح الأجانب.
وللمفارقة فقد عاش النوبيون لآلاف السنين بجوار آثار أجدادهم بناة الحضارة الأولى هذه ولم يكن من شيمهم نبشها أو سرقة محتوياتها أو بيعها، بل نجد في كثير من القرى النوبية شواهد وأجزاء من التماثيل بارزة نصفها فوق مستوى الأرض، ومع ذلك كانت تلقى العناية والإحترام وتركها كما هي في أخلاق وتواد قديم ومتوارث، لم لا وهي تماثيل لأجدادهم!! لكن المستوطنين الأوروآسيوين الجدد لم يكن لديهم وازع يمنعهم من النبش والسرقة والبيع، وأخيرا التزوير.
كان الاستقصاد الأول لضر وتهجير النوبيين سكان الأرض الأصليين من قراهم عبر إنشاء خزان أسوان؛ وهذا ما حدث بداية عند إنشاء خزان أسوان، عام 1899م في عهد الخديوي عباس الألباني الأصل الذي كان حاكما لمصر، وعند اكتماله في عام 1902م كان قد تم إغراق عشرة قرى نوبية، حتى دون مفاوضات مع النوبيين، وبلا تعويض ولا أي مراعاة إنسانية لهم، فجعلوا سكان العشرة قرى هذه يواجهون الغرق أو ترك قراهم، فما كان من الأهالي إلا الإحتماء بالتلال والجبال وبناء مساكن لهم فيها بجوار أراضيهم الغارقة، ثم جاءت التعلية الثانية لخزان أسوان عام 1912م لتغرق ثماني قرى أخرى، لكن هذه المرة تم تهجيرهم إلى مساكن في الأقصر وأسوان، وكان كل ذلك قسريا، وحتى دون تعويض اقتصادي عن الأراضي الزراعية ومصادر دخلهم علما بأن أقل واحد منهم كان يمتلك مالا يقل عن خمسة أفدنة زراعية تنتج له مختلف المحاصيل السلعية والبستانية طوال العام عزيزا مكرما، ثم ما لبث العام 1933م إلا وتمت التعلية الثالثة لخزان أسوان ليواجه سكان العشر قرى مرة أخرى الغرق والتهجير إلى الصحراء على تخوم ما يغطيه الخزان، علما بأن ارتفاع الخزان وعمق مياهه يصل إلى 111م، غرقت تحتها معالم حضارية شاهدة على عظمة بنائيها وأحفادها المجاورين لسكنتها على مدى آلاف السنين.
أما عن الحملات التركية (1820-1824م) عن طريق محمد علي الألباني _الوالي المكلف على مصر_، والتي كانت موجهة للعمق النوبي “شمال ووسط السودان الحالي”، فقد تم أكبر تدمير على مر التاريخ للأهرامات النوبية بالسودان، حيث تم تدمير مايقارب 40 هرما تدميرا كليا أو جزئيا من أهمهم الهرم رقم 6 هرم الملكة الكنداكة أمانيشكيتو، عن طريق الإيطالي جوزيبيفيرليني بصفته طبيب وصائد كنوز، لكننا نعتبره هنا لص كنوز ومدمر تاريخ لا يقدر بثمن، وقد تحصل متحف برلين في ميونخ على ما تبقى من بعض المسروقات المتبقية من ذهب وكنوز الملكة أمانيشكيتو محفوظة وعروضة بشكل مهني وتاريخي جميل.
وجاءت الطامة الكبرى والمساهمة الأكبر في طمس الهوية النوبية للحضارة الفرعونية عبر إقامة السد العالي على الأراضي النوبية، لتغرق مياهه جميع بلاد وقرى النوبة في جنوب مصر، وقسم كبير أيضا من قرى وآثار النوبة في شمال السودان، وذلك على مساحة تقدر بأكثر من 550 كلم طولا، وبعمق مياه يبلغ 180 متر، مما حدى بأمم العالم المهتمة بالتاريخ والحضارة الإنسانية إلى القيام بحملة عالمية سميت بالحملة الدولية لإنقاذ آثار النوبة.
تم إنقاذ ما يمكن إنقاذه من معابد ومنشآت وآثار ظاهرة، لكن ما تم إنقاذه لا يمثل إلا نسبة ضئيلة من الشواهد الظاهرة والباطنة التي بقيت إلى اليوم تحت الأرض ومن ثم من فوقها مياه السد بعمق 180 متر.
وللأسف فقد قام الرئيس المصري جمال عبد الناصر بعد جريمة إغراق بلاد النوبة هذه بإرسال الكثير من المعابد النوبية التي تم إنقاذها إلى دول أخرى، إمعانا في فصل النوبيين عن أرضهم، وعن تاريخهم، وعن آثارهم التي بنوها بأيديهم وعلومهم وعاشوا بجوارها لآلاف السنين، ومن هذه المعابد: [معبد طافا من قرية امبركاب النوبية – وقد تم إهدائه إلى هولندا] ، [معبد دندور والذي يبلغ وزن حجارته حوالي 800 طن، وتزن أكبر قطعة حجرية منه 6.5 طن – تم إهدائه إلى الولايات المتحدة الأمريكية] ، [معبد الليسية من قرية ابريم يرجع تشييده إلى عصر تحتمس الثالث – تم إهداءه إلى إيطاليا]، [معبد دابود والذي قام ببناءه الملك الكوشي “إدخاليماني” في قرية دابود النوبية – تم إهداءه إلى اسبانيا] ، [ إحدى بوابات معبد كلابشة من قرية كلابشة النوبية – تم إهداؤه إلى ألمانيا] .
وهكذا نرى جزءا ضئيلا حالكا في السواد والغوغائية من استهداف الشعوب النوبية في أرضها وتاريخها العظيم وثقافتها وعلومها، إلا أنها تظل خالدة بإذن الله رغم تربص أعداء التاريخ ومحاولاتهم المتواصلة في طمسها وتزويرها ونسبها إلى غير أهلها النوبيون الكوشيون العظماء.