عزيزي القارئ مازالت رحلتنا في أرض السودان وتاريخها ذلك المعين الذي ﻻ ينضب، تعال معي نواصل مسيرتنا التي بدأناها من الشمال من أرض النوبة والعنج لنتجه جنوباً إلي حيث سنار مهد مملكة الفونج والعبدﻻب.
يعتبر الفونج والعبدﻻب من أوائل القبائل التي اعتنقت الإسلام في السودان ، فالفونج أو الفُنْج من القبائل النيلية التي سكنت على مجري النيل الأبيض، فقد أوردت كتب التاريخ عدة روايات فواحدة منها تدل علي أن نسب الفونج يرجع إلى الشلك سكان دارفور الأصليين، و رواية ثانية تقول أنهم من قبائل البرنو في غرب افريقيا، أما ما ورد على لسان المؤرخين السودانيين أنهم من قبيلة بني أمية وتستند تلك الرواية على أن العباسيين لما تغلبوا على الأمويين في الشام نزعوا الملك من أيديهم سنة 750م، ففر من بقي منهم وتفرقوا في أنحاء العالم و أسسوا مملكة الأندلس وجماعة أخرى جاءت إلى السودان فأسسوا مملكة سنار.
يروي الشيخ عبد الدافع صاحب تاريخ الفونج : (انتقل الفونج من جبال الجنوب إلي جبل موية المجاور لجبال سقدي علي مقربة من سنار، وكان كبيرهم عمارة ود دنقس، وفي جوارهم قبيلة من عرب جهينة تعرف بالقواسمة وعليها شيخ شديد البأس بعرف بعبدالله جماع. اتفق عمارة دنقس وعبدالله جماع على توحيد كلمة المسلمين ومحاربة الممالك المسيحية في شمال الشلال الثالث لنزع الملك من أيدي العنج فحشدا الجيوش وهاجما العنج في سوبا فقتلوهم شر قتلة وخربا سوبا، ثم سارا إلى قرّي فقتلا ملكها و استوليا علي البلاد كلها وذلك في 1505م.
قيل أنهما لما انتصرا أجمعا على أن يكون الملك لعمارة في مكان ملك سوبا ﻻنه الكبير والمقدم و، أن يكون عبدالله جماع بعده في مكان ملك قري، فالمطلع على تاريخ الممالك المسيحية يجد أن سوبا كانت أقوى وأعظم من قرّي – كما رأينا في سياحتنا السابقة- لذا كان عبدالله جماع بمثابة شيخ؛ فمكث في قرّي وذهب عمارة دنقس إلى سنار وجعلها كرسي مملكتة؛ فأصبحت حينها سنار عاصمة لمملكة الفونج.
توسعت الفونج فشملت الأراضي من الشلال الثالث شمالاً إلى أقصى جبال فازغلي جنوباً ومن سواكن شرقاً على البحر اﻻحمر حتى النيل الأبيض غرباً.
تمتعت مملكة الفونج منذ بداياتها باﻻستقرار الذي جاء نتيجة ﻻنسجام ملكيها حيث أنهما كانا كالاخويين فإذا حضرا معا تقدم عمارة ﻻنه الملك والأكبر، وإذا غاب تقدم عبدالله ليقوم مقامه،وظلت هذه العادة سائدة حتى سقوط المملكة .
تتواصل سياحتنا في تاريخ مملكة سنار فالقادم يحمل في طياته المثير عن تلك المملكة التي قامت على إئتلاف عرقيات وقبائل مختلفة، واستمرت لعقود من الزمان لم تعرف خلال تلك العقود مشاكل داخلية وﻻ خلافات قبلية وهذا إن دلّ إنما يجل علي سماحة إنسان تلك الفترة وأيضاً يدل على الحكمة التي تمتع بها حكام ومشايخ مملكة الفونج.
يبدو أن عمارة دنقس وعبدالله جماع خططا في بداية الأمر تخطيطاً جيداً لقيام تلك المملكة، فلو لم يكن هكذا لما كانت سنار أقوى مملكة في ذلك الزمان شملت مساحات واسعه من الأراضي السودانية ، واستطاع حكامها خلق علاقات مع الجوار امتدت إلى أرض الحجاز، فقد أقام بادي الأحمر أحد ملوك سنار هناك مجموعة أوقاف في المدينة المنورة وهو عبارة عن وقف ﻻستقبال زوار مملكته للأراضي المقدسة، وﻻ يزال جزء من آثار تلك الأوقاف قائماً حتى اليوم. كما أقام ملوك سنار الرواق السناري في الأزهر، وهي بمثاية معاهد ﻻستيعاب طلاب مملكتهم، كما شجعوا هجرة الدارسين وعلماء الدين إلى هناك.
من هنا يمكننا أن نؤكد على أن الفونج كانت سلطنة إسلامية وأولى التجارب الناجحة والرائدة لأنها استطاعت أن تخلق سودان موحد رغم اختلاف الثقافات والعرقيات والإثنيات.